على وقع النقاش الدائر حول قانون الإنتخاب سعياً الى إنهاء مفاعيل الستين واستبداله بأيّ نظام آخر، يغرق اللبنانيون في بحر من المواقف الملتبسة والغامضة والمفخّخة والصريحة في آن. ولذلك فإنّ إجراءَ مقارنة سريعة بين النتائج التي ترتبت على اعتماد النسبية في دول وأخرى لجأت الى نظام الدائرة الفردية تُظهر الفارق بين ما يؤدّي الى الإستقرار وإنعدامه، وهنا نموذج منها.
لا يخفي الخبراء في القوانين الإنتخابية حجم القلق الممزوج بالألم من عدم قدرة اللبنانيين الذين أبدعوا في كثير من المجالات على ابتكار قانون انتخابي جديد يؤكد فرادة تركيبة لبنان الديمغرافية والإجتماعية وتعدّدية طوائفه ومذاهبه ليعطيها المعنى الحضاري ويحفظ أبعادها الإنسانية في محيط مختلف تماماً وبعيد كلّ البعد عنها في كلّ المجالات والمستويات.
وعليه فإنّ النقاش الدائر في لبنان حول قانون الإنتخاب الجديد عزّز الإنطباعات السلبية لدى عدد من الخبراء المحايدين حول حجم الخلط القائم بين المصالح الفئوية والطائفية والساعين الى قانون يرغبون بتسميته «حضارياً وعادلاً»، قانون يصحّح التمثيل الشعبي ليس على المستوى المسيحي فحسب، إنما على المستوى الإسلامي أيضاً، وهو ما يعطي البحث عن هذا القانون أبعاداً وطنية يتجاهلها البعض قصداً أو بغير قصد قياساً على الواقع الذي تعيشه البلاد.
ولذلك فإنّ النظرة المحايدة الى القوانين الإنتخابية المعتمَدة الى اليوم لا تتوقف عند سوء التمثيل المسيحي فحسب، فللثنائية الشيعية والآحادية الدرزية والسنّية انعكاسات سلبية على مجتمعات صامتة تئنّ من مظاهر مصادرة الرأي في طوائفها ومذاهبها.
لكنّ هناك قدرات هائلة عسكرية ومالية وضعت لدفنها ووأد كثير منها في مهدها تحت شعارات متعددة منها ما يتّخذ شكل المواجهة مع إسرائيل والأنظمة التي تستهدف محور الممانعة والمقاومة تارة أو تستهدف السنّة والأقلية الدرزية طوراً.
وبعيداً من هذا المنطق يصرّ الخبراء على توصيف السعي الى اعتماد النسبية جزئياً أو شاملاً، بأنه عدا عن كونه وسيلة لإلغاء البعض وتقليص حضورهم على الساحة السياسية، فهو توجّه بدأ عدد من الدول الديمقراطية الإستغناء عنه في اتجاه نظام الدائرة الصغرى أو الفردية التي تقرّب المسافات بين المواطن وممثّله لدى السلطة التشريعية وتعطي المواطن حقّ المحاسبة والمكاشفة مع مَن يمثّله مباشرة بأقصر الطرق وأكثرها فاعلية نتيجة المعرفة الشخصية بقدرات المرشحين وحجم استعداداتهم لخدمة المجموعة التي طلبوا رضاها في صناديق الإقتراع.
وعليه يصرّ الخبراء على تعداد التجارب الدولية التي لجأت الى اعتماد الدائرة الصغرى فردية كانت أم ثنائية أو ثلاثية في حدّها الأقصى. ومنها دول لجأت منذ ثمانينات العقد الماضي تنحو في اتجاهها بعد فشل التجارب التي اعتمدت النسبية أو الدوائر الكبرى التي باعدت بين المواطن ومرشحه على رغم اعتماد بعض هذه الدول على التركيبة الحزبية ومشاريع البرامج التي تتنافس بعيداً من المنطق الطائفي والمذهبي الذي يظلّل الإنتخابات النيابية في لبنان.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد رصد الخبراء التحوّلات التي عاشتها الدول الأوروبية بعيداً من منطق النسبية منذ فترة طويلة وهي لجأت الى الدوائر الفردية في 70% من دولها. وإن كان البريطانيون أوّل مَن انتقلوا الى قانون الدائرة الفردية أو الصغرى لمواجهة العصبيّة التي بدأت تتنامى بين المجموعات الدينية.
وبعدهم لجأ الفرنسيون الى النظام عينه، فيما اعتمد الألمان النظام المختلط على أساس الدائرة الفردية في ثلثَي الدوائر الإنتخابية وأبقوا على النسبية في الثلث الأخير، وهو حال دول أخرى خارج القارة الأوروبية ومنها الولايات المتحدة الأميركية واليابان التي قلّصت الإعتماد على النسبية الى الحدود الدنيا.
وفي ضوء الإستقرار السياسي والحكومي الذي حققته قوانين الإنتخاب التي تعتمد الدوائر الصغرى، يصرّ الخبراء على إعطاء صورة مغايرة تشير الى ما يؤدّي الى حال من عدم الإستقرار السياسي ويستشهدون بالتجربة الإيطالية التي ما زالت تعتمد النسبية الشاملة في الانتخابات، ويحصون تشكيل أكثر من 50 حكومة ايطالية في فترة قياسية تمتدّ على مدى ستة عقود اعقبت الحرب العالمية الثانية.
و عند الغوص في التفاصيل يظهر أن حجم الإئتلافات التي تؤدّي اليها النسبية هو السبب الرئيس في عدم الإستقرار. فحكم الغالبية المطلقة في الحالات الإئتلافية يكون مستبعداً. إذ كانت الحكومات تشكَل لتعبّر عن إئتلاف يمكن أن يهتزّ في أيّ لحظة يقع فيها الخلاف حول ملف أو عنوان سياسي كبير فتفتقد الأكثرية وتهتزّ الحكومة وتسقط.
وبناءً على ما تقدم ينهي الخبراء قراءتهم لمواقف اللبنانيين من قانون الإنتخاب ليثبت لديهم عدم وجود أيّ قرار يعدل في التركيبة اللبنانية القائمة مخافة أن تهتزّ التوازنات القائمة بما يؤدّي الى فتنة مذهبية. ولذلك فهم يبحثون عن قانون يعيد تكريس نتائج الستين وإذا فشلوا فهو جاهز ليعيد إنتاج الطبقة السياسية نفسها.
ولن يكون لديهم أيّ عائق أو مشكلة إن نكثوا بوعودهم وتعهّداتهم فمن الواضح أنّ أطراف الصفقة الرئاسية صادقون أكثر من أيّ وقت مضى في تنفيذ التفاهمات السرّية التي سبقت الإستحقاق الرئاسي وقادت اليه ولن يخذلوا بعضهم بعضاً.