118 يوماً مرّت على بداية العهد الرئاسي وعلى امتدادها، لم يترك رئيس الجمهورية ميشال عون فرصةً أو مناسبةً إلّا وعبَّر فيها عن إصراره على قانون جديد للانتخابات. وما زال الكلام الرئاسي مستمراً في هذا المجال.
زوار بعبدا يلمسون هذا الإصرار، إنما في الوقت ذاته يلمسون امتعاضاً من الانسداد القاسي للمسار الانتخابي واستياءً شديداً من المنحى الذي يسلكه بعض القوى السياسية الذي يقفل الباب على أيّ إمكانية لبلوغ بر الأمان الإنتخابي بقانون جديد يرتكز ولو على الحدّ الأدنى من التطوير.
الزوار يضعون في يد رئيس الجمهورية رهانهم على «المنحى الإصلاحي» الذي يسعى الى تكريسه ويسوّق له يومياً بأنّ عهد الإصلاح والتغيير قد بدأ ولا عودة الى الوراء.
هذا ما يسمعه الزوار لكن ليس في اليد الرئاسية سوى تمنيات تنتظر ترجمتها على أرض الواقع، أما كيف ستُترجم فلا أحد يعرف؟ خصوصاً أنّ الرئيس لا يملك قدرة إلزام القوى السياسية الأخرى بالذهاب الى المسار المؤدّي الى القانون الذي ينادي به.
لا للستين، هو شعار رفعه الرئيس رافضاً أن يُبنى عهده على اساس هذا القانون وقرنه بـ «لا» ثانية للتمديد للمجلس النيابي، حتى إنه ذهب في لحظة معيّنة الى ما فوق السقف العالي، وقال إنّه إن خُيّر ما بين التمديد والفراغ سيختار الفراغ علماً أنّ قوى أساسية وازنة وضعت في يد الرئاسة الأولى موقفاً حاسماً «الفراغ ممنوع» لأنه يعني نهاية الدولة، والعهد أوّل «المنتهين».
اذاً، لا بد من قانون جديد، والرئيس مصرّ على ذلك، حتى في آخر لحظة من ولاية المجلس الحالي. الستين انتهى ولا عودة اليه كما يقول الرئيس، ولكن هذه «اللاعودة» تصطدم بأنّ غالبية القوى السياسية تدور وتلف حول هذا القانون.
من هنا سارع الرئيس الى خطوة عدم توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، لكنّ في ظلّ هذا الانسداد تبيّن أنها خطوة رمزيّة، لم تشكل حافزاً للسياسيين للانتقال الى البحث الجدي عن قانون، بل على العكس من ذلك علق هذا البحث في متاهة الدوران حول الذات، وما زال الدوران مستمراً حتى الآن.
أمام هذا الواقع بدأ الحديث عن خطوات رئاسية مبيّتة سيرميها الرئيس في لحظة معيّنة، يدفع من خلالها الأطراف السياسية الى توليد قانون مع أنّ هناك مَن سمع في الآونة الاخيرة كلاماً رئاسياً مفاده «بنشوف شو بدنا نعمل».
وهناك مَن سمع أيضاً تذمّراً رئاسياً من «أنّ هناك مَن يريد التمديد فعلاً سواءٌ عبر الستين أو عبر التمديد نفسه للمجلس ولأربع سنوات، فهل يحتمل البلد هذا الأمر؟».
المهم ماذا في يد الرئيس أن يفعل؟ هل إنّ ما يُحكى عن «خطوات مبيّتة» يمكن أن يفتح القفل الانتخابي ويزرع عقل الرحمن في الذهن السياسي؟
وهل يملك الرئيس سلطةً تنفيذية لهذه الخطوات إن قرّر الذهاب اليها؟
أولاً: استطاع رئيس الجمهورية أن يُجمّد مرسوم الهيئات الناخبة لكنه لم يفتح الباب على قانون جديد.
ثانياً: يستطيع الرئيس، من موقعه المعنوي، واستناداً الى هيبة الرئاسة، أن يُوجّه رسالة الى اللبنانيين والى كلّ القوى السياسية يتمنّى عليهم فيها العمل على إعداد قانون جديد ولكن قد يُستجاب لهذه الرسالة وقد لا يُستجاب لأنها لا تحمل صفة الإلزام.
ثالثاً: يستطيع الرئيس أن يتوجّه الى مجلس الوزراء بكلمة مباشرة يدعوه فيها الى أن يعكف على وضع قانون للانتخابات، والعائق أمام هذه الدعوة هو أنها غير ملزمة، وقد يُستجاب وقد لا يُستجاب لها. والعائق الثاني هو أنّ مجلس الوزراء مؤلف من القوى السياسية نفسها المختلفة جذرياً على القانون.
رابعاً: يستطيع أن يوجّه رسالةً الى مجلس النواب يدعوه فيها الى التصدّي للملف الانتخابي وتوليد قانون جديد. لكنّ الرسالة إن وُجّهت، غير ملزمة.
وأقصى ما يمكن أن يفعله المجلس هو أن يبادر واحتراماً لمقام الرئاسة ومعنوياتها لأن يعقد جلسة لتلاوة الرسالة لا اكثر وحتى ولو قرّر المجلس البحث في قانون، فيصطدم بالعقبة الأساس وهي أنّ المجلس النيابي لا يجتمع على كلمة واحدة في الملف الانتخابي، وهو أي المجلس، الصورة المكبّرة عن الحكومة المختلفة على القانون والتي تتمثّل فيها القوى السياسية المختلفة على القانون.
معنى ذلك أنّ الرسالة لن تؤدي غرضها فضلاً عن أنّ عدم الاستجابة لها – وهو الامر الراجح – هو ضرر موصوف يلحق بمعنويات الرئاسة وبالتالي لا نتيجة.
خامساً: يستطيع الرئيس أن يدعو الى طاولة حوار انتخابي. قد تكون هذه الدعوى مجدية من حيث الشكل، لكنها من حيث المضمون تتطلّب إجماعاً حول ما تقرّره، وبالتالي لا يمكن توليد قانون انتخابي على طاولة حوار إذا بقيَ طرف واحد معارض أو له تحفظات وهواجس.
سادساً: يستطيع الرئيس أن يطرح شخصياً ما يمكن تسميتها «صيغة الرئيس» لقانون انتخابي. لكن أمام الواقع الانقسامي السياسي يصبح نجاحها غير مضمون، وهنا تكون المشكلة الكبيرة. ذلك أنّ سقوط هذه الصيغة سيشكل ضربة معنوية كبرى للرئاسة ولعهد أُريد له أن يكون قوياً.
سابعاً: يستطيع الرئيس أن يدعو الى استفتاء عام، لكنّ هذا الأمر قد يكون الأخطر، ذلك أنه ليست هناك سابقة من هذا النوع في لبنان. ولنفرض أن دعا الرئيس الى الاستفتاء، فوفقاً لأيّ قانون أو دستور، ثمّ أين سيحصل هذا الاستفتاء ومَن سيلتزمه، وأهمّ من كلّ شيء مَن سيُلزم بنتائجه.
ثمّ إنّ هذا الاستفتاء هو سيف ذو حدّين. فلكي يحصل لا بدّ من تعديل دستوري ينص عليه صراحة في متن الدستور، وخطورته أنه إن حصل فعلاً، فسيظهر الى العلن لغة الاعداد والاكثريات والاقليات.
هناك مَن زايد في هذا المجال حينما قال أيّ أعمار ستشارك في الاستفتاء؟ هل مَن هم 18 سنة فما فوق أم من 21 سنة؟ ومَن هو صاحب الصلاحية في تحديد النسبة العمرية؟
ثامناً: أن يوجّه رسالة علنية شديدة اللهجة الى القوى الساسية يعلن فيها بشكل قاطع: لا انتخابات على أساس قانون الستين ولا تمديد لمجلس النواب تحت أيّ عنوان أو سبب حتى ولو أدّى ذلك الى «الفراغ»، لكنّ الخطورة هنا هي كيف سنلمّ البلد إن وصلنا الى الفراغ؟
تاسعاً: يستطيع أن يقبل بتمديد تقني لأشهر بمعزل عن الدخول الى قانون جديد، بحيث يصدر قانون عن مجلس النواب ينص في إحدى مواده على أنّ الانتخابات النيابية التي كانت مقرَّرة خلال الستين يوماً السابقة لنهاية ولاية مجلس النواب في 20 حزيران 2017 ستجرى حكماً في ايلول أو تشرين أو غيرهما، لكنّ هذا الأمر مستبعد لأنّ الرئيس سبق وأعلن رفضه القاطع للتمديد، وكذلك أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الرفض «ولاءاته الثلاث» ما زالت ساخنة.
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ لغة الإلزام الرئاسي للقوى السياسية بالوصول الى قانون جديد غير متوافرة ويتبيّن من الصورة السياسية العامة أنّ الأمور كما هي الآن ذاهبة الى قانون الستين.
فهل ستغلب القوى السياسية قانون الستين أم أنّ هذا القانون سيدفع بهذه القوى الى القبول به كأهون الشرور تحت شعار: إذا كان الستين ضربةً موجعة للعهد ولجميع السياسيين، فإنّ الضربة الموجعة هي خير من ضربة قاضية يمكن أن يوجّهها الفراغ للبلد وعلى كلّ المستويات.