IMLebanon

أيُّهما أفدحُ: التمديد للمجلس أم إفراغ الرئاسة!؟

 

حتى في أصعب الظروف الأمنية والسياسية التي كانت تعصف بلبنان في الأحداث الماضية كان يُمدّد لمجلس النواب لكي ينتخب رئيس الجمهورية. رؤساء الجمهورية يتغيرون، ونواب المجلس لا يتغيرون. كانت الرئاسة، حتى في نظر من يعارضون النظام والصيغة والبنية السياسية، ان انتخاب رئيس للجمهورية «واجب» لازم، لأنه بكل بساطة «رأس الدولة». كانت تتغير الحكومات والرئاسات ومجلس النواب يمدد له. استمر هذا الأمر منذ انتخاب الرئيس بشارة الخوري حتى ارتبط انتخاب الرئيس- بالوصاية السورية التي تمكنت من السيطرة أمنياً وسياسياً على كل لبنان، بعد حرب التحرير التي شنها ميشال عون على الجيش السوري.

انعكست الآية، مُدّد للرئيس الياس الهراوي، ومن ثم لإميل لحود، ولم يُمدد للمجلس النيابي. صار هناك انتخابات نيابية، وتمديد (أو اعادة انتخاب) للرئيس. والانتخاب وبالطرق التي تمّ فيه كان أسوأ من التمديد. ولكن في مجمل هذه الحالات، لم يلجأ أحد حتى الوصاية السورية إلى إحداث فراغ رئاسي وان كان نمط التمديد، وبالفرض الذي تم فيه، جزءاً من فراغ، أو نوعاً من الشغور المعنوي- والمادي والسياسي. وكلنا يعرف ان «التجديد» لإميل لحود كان يعني استمرار الشغور «السيادي» والاستقلالي، لأنه كان أقرب إلى التعيين، فكأنها وظيفة إدارية، أو مركز تقني. مع هذا، كان ثمة شرعية وأن ملتبسة بالنسبة لهذا النوع من التجديد الذي أدى في تجربته الأخيرة، إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (وتهديد النائب وليد جنبلاط) ما أدى إلى ثورة الأرز. لم يكن هناك آنئذ ما يُسمى «توافقاً» أو حتى حد أدنى من الاتفاق لانتخاب الرئيس، بل مجرد تعيين. و»التوافق» بالنسبة للوصاية السورية كان يعني «انتقاصاً» من وصايتها وتجريحاً في هيبتها!

بمعنى آخر، وتجاوزاً لهذه الظروف، تخطى حزب الله و8 آذار كل المعايير الدستورية والسياسية التي سبقتهم، باستهدافهم رأس الدولة، الذي لم يعرف شغوراً إلا بعد نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل، وإقامة الجنرال عون في قصر بعبدا، وتأليف حكومة عسكرية من لون واحد، كأنما حلت محل «الرئيس». وهنا يمكن القول إن ظروف البلد، والتحضير لمؤتمر الطائف، والحالة الأمنية (حربان اندلعتا: حرب التحرير وحرب الالغاء!)، هي التي رافقت هذا الشغور.

اليوم، تبدلت الأمور. تتغير الحكومة. يمدد لمجلس النواب. لكن يُحال دون انتخاب رئيس للجمهورية. كأنما لبنان، اليوم هو البلد الوحيد في العالم الذي يمدد فيه للمجلس وتُعين الحكومة… ويقطع رأس الدولة. مفارقة غريبة. وهنا الخطورة بالذات. ولا نظن أن عدم اجراء انتخابات نيابية، بسبب الظروف الأمنية الخطرة، أفدح من منع انتخاب رئيس للجمهورية. استهداف حزب الله بالذات (ووراءه إيران) لموقع الرئاسة يُعتبر «فتحاً» غير مسبوق في السياسة اللبنانية. والأغرب ان بعض الذين قاطعوا جلسات الانتخاب الرئاسية بحجة مطالبتهم بتوافق مزعوم، مشروط باسم مرشحهم وافرغوا قصر بعبدا من الرئاسة ورفضوا التمديد للرئيس ميشال سليمان، هم الذين يعارضون التمديد بهذا الخطاب السياسي المشحون، والتحريضي والانتهازي والابتزازي والشعبوي. حِرص لفظي على الانتخابات النيابية وتعطيل لانتخابات الرئاسة. شيء مضحك. ومؤسف ولكن الجامع بين موقفيهما، ان تعطيلهم انتخاب رئيس للجمهورية أدى إلى الفراغ، ورفضهم التمديد للمجلس في ظل الظروف الضاغطة، يؤدي إلى فراغ آخر، وتصبح الحكومة (اذا بقيت لها شرعيتها)، بين فراغين وبين موتين وبين كارثتين. وهنا بالذات، يمكن الكلام على الفجوات العميقة، التي هي اشبه بالهاوية، بين الدولة ومؤسساتها، وبين حزب الله و8 آذار. وهي بمثابة الفراغ الجزئي المموه. ونظن أن هذه الفجوات التي أحدثها حزب محتشمي في لبنان، ومن خلال ممارساته الميليشيوية (7 أيار، انقلاب القمصان السود واسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، انما هي وجه من وجوه الفراغ الفاقع. والأدهى، من كل ذلك، أن حزب الله الذي يعتبر ميليشياته فوق الجيش اللبناني وجماهيريته «العظمى» فوق الدولة اللبنانية. يتفرد بقرار الحرب والسلم في الجمهورية، وكأنه هو «المرجعية» الأولى والأخيرة. وهذا هو الفراغ العظيم، وهنا نعود إلى جذور المشكلة: ارسلت إيران حزب سليماني إلى سوريا، لتنفيذ مأمورية الدفاع عن بشار الأسد. أي التمرغ في الوحول السورية. أي كسر قرار «النأي بالنفس» عن الحرب السورية الذي اتخذ بموافقته خلال «إعلان بعبدا» ليورط لبنان كله بعمالته لإيران. وفي «نزهته» الدموية إلى سوريا والعدوان على شعبها، واحتلال أجزاء منها مع الحرس الثوري الإيراني، تجاهل واستصغر وخالف كل التحذيرات بغباء العمالة وعَماء الانسياق ، مما استجلب الحرب إلى لبنان نفسه، وتجاهل كل التنبيهات ضارباً بعرض الحائط وجود حكومة ورئاسة جمهورية ومجلس نواب، وجيش لبنان: انه الفراغ الأعمق والأغور والأخطر، فماذا يعني تجاوز «ميليشيا» (ذات ارتباط بالخارج) كل مؤسسات الدولة واعلان حرب على الشعب السوري، سوى تجذير الفراغ الجمهوري والدستوري والميثاقي والوطني والسياسي. والذين يتحدثون اليوم، عن الفراغ، وعن «انهيار» الدولة وحتى سقوط الجمهورية هم حلفاء للدويلة الإيرانية المعلنة في لبنان على حساب الدولة اللبنانية. فالوصاية فراغ أيضاً. والاحتلال فراغ، ومحاولة نهش المؤسسات فراغ بالذات والذي يجسد في بعض وجوهه، انتقال الحرب السورية إلى لبنان واستجلاب الخطر «الإرهابي» الداعشي، من قبل رمز الفراغ والتفريغ، هو الذي قطع رأس الجمهورية أولاً، وهو الذي وضع لبنان في هذه الحالة الأمنية المتفجرة والتي أدت إلى التمديد للمجلس النيابي، لصعوبة اجراء انتخابات نيابية.

هنا بيت القصيد بالذات، فأصل «الكريهة» هذه هو الحزب و8 آذار. فكيف يعتبر بعضهم ان التمديد للمجلس النيابي (درءاً للفراغ) هو مناقض للدستور وللديموقراطية (واديموقراطيتاه!) وتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية ليس مناقضاً لكل القوانين والمواثيق والدساتير والتقاليد؟ غريب! منع الفراغ جريمة عبر التمديد للبرلمان واحداث الفراغ الرئاسي «حق دستوري» مشروع! فالذين أيدوا وشاركوا في حكومة القمصان السود الانقلابية، هل كانوا «حريصين» على كرامة المجلس وهل احترموا نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة التي فازت بها 14 آذار؟ والذين يفرضون نوعاً من «التوافق» القسري، المشبوه، لانتخاب رئيس ويهتفون «نعم للفراغ» اذا لم يتم التوافق على ما نفرضه وهو اسم واحد وحيد . هل هو مع الدستور؟ ممنوع أن يترشح أحد! ممنوع أن يقوم تنافس! ممنوع أن يطمح أحد إلى رئاسة. ما عدا شخص واحد! أوليس هذا الفراغ بعينه. أو الهستيريا بعينها! أو الهذيان بعينه! فالتوافق القسري فراغ. (تماماً كوجود الوصاية أو الاحتلال أو الاستبداد). وفرض مرشح واحد أو لا أحد هو أكثر من فراغ: هو خيانة الشعب اللبناني كله والكرامة الوطنية والإرادة الشعبية. الا تذكرنا محاولة فرض رئيس معين محدد على حساب الآخرين بالتجديد لإميل لحود؟ الوصاية السورية زعقت: «اميل لحود أو لا أحد!« وحزب الله يزعق الجنرال عون أو لا أحدّ وما يجمع الوصاية والحزب انهما أولاً وصايتان: الأولى وصاية مباشرة والثانية بالوكالة عن إيران. إذاً ما الفارق بين التمديد لإميل لحود على الرغم من معارضة شرائع واسعة من اللبنانيين والزعماء والنواب وبين فرض مرشح واحد للرئاسة. والأغرب من كل ذلك ان حزب الله الذي أيّد التمديد للبرلمان بالتوافق الحر مع أكثرية 14 آذار، يريد في المقابل أن يكون التوافق على الرئيس مرتهناً «باختياره» الوحيد الواحد الأحادي! هنا يتحسّس الحزب» الظروف الأمنية» التي يعيشها لبنان (وهو الذي استجلبها بكل راحة ضمير! واباء ومقاومة وممانعة) وهناك لا يتحسس كيف أن بلداً كلبنان وفي هذه الظروف بالذات بدون رئيس! 

غريب أمر هذا الحزب. كأنما يريد أن يقول للبنانيين وللعالم ان لبنان بدون رئيس أفضل منه أن يكون برئيس. وبيت قصيده يقول «ما دمنا نحن الجمهورية، فنحن أولى بتنكب هذه المهمة وقد توليناها بالفعل بالسعي إلى التمديد للمجلس النيابي. بل كأن بيت قصيده يقول ما دام هناك حزب مرتهن بالمرشد الإيراني فلماذا لا يكون هذا الأخير، أو من ينوب عنه عندنا، مرشداً للبنان؟ حتى أن بعض اللبنانيين باتوا يتندرون، من باب الأسف طبعاً، بقولهم: حزب الله لا يستطيع أن يتحمل رئيسين أو مرشدين: مرشد إيران… ومرشد لبنان؟ وما بينهما طبعاً فراغ، ولماذا لا يتمادى الحزب في توسيع دوائر الفراغ حتى في هذه «الدولة العميقة» (كموروث التراكم للجمهورية) ليكون الشغور الرئاسي جزءاً من وجوده. فحزب الله ما زال موجوداً بسلاحه، لأن هناك فراغاً في الدولة (الميليشيات السابقة حلّت محل الدولة بعدما دمرتها). حزب الله يّجوّفها، يُقشرها، يقطعها، ويلتهمها، شقفة شقفة. انه يأكل الفراغ الذي أحدثه ويمتلئ به. بل كأن هذا الحزب عاد من تحرير الجنوب (حرّر الجنوب من اسرائيل وسلمه لإيران فيا لهذا التحرير المبين. ويا لهذه المقاومة الأصيلة. أصيلة والله!) ليوظفه في الاستيلاء على الدولة وعلى الحدود. وهنا نتذكر ان عدم انتشار الجيش على الحدود الشمالية ألم يكن فراغاً؟ وحرية تنقل حزب محتشمي بسلاحه وعتاده بين لبنان وسوريا، أوليست فراغاً، بل الغاء الحدود بين البلدين، قبل أن يقوم داعش بذلك بإلغائه الحدود العراقية السورية لإرساء دولة الارهاب أوليست ارهب أنواع الفراغ؟

كل هذه الظواهر «الفراغية» الاستبدادية لم تهزّ التعطيل المبرمج لانتخاب الرئيس. غريب! فمن مقولة «الفراغ افضل من انتخاب رئيس للجمهورية! إلى مقولة… فليكن الفراغ اذا لم تجر الانتخابات النيابية! إلى مقولة الفراغ المطلق افضل من بقاء الجمهورية نفسها ولبنان والكيان والحدود. والمضحك ان حلفاء حزب محتشمي يتمسكون في بعض المواقف بالدستور. فانقلاب القمصان السود هو تطبيق حرفي للدستور! و7 أيار تجسيد معنوي ومادي للدستور وتأليف حكومة بالإكراه هي حكومة ميقاتي هي «روح الميثاق» وأريجه وفرض مرشح واحد هو ينبوع الدستور. ومنع انتخاب رئيس للجمهورية بحسب الدستور، هو الدستور الحقيقي الحرفي. واليوم، وبكل اباء، يحملون «الكتاب» (بحسب قول فؤاد شهاب) ويعارضون التمديد باسم الدستور نفسه، كأن الدستور عندهم كأُذُن الجرة بالنسبة لصانعها، يضعها حيث يريد: فوق تحت، وحتى خارج الجرة.

لكن اذا تابعنا مسار «الأبطال» الوطنيين الذين اعلنوا وتظاهر بعضهم رفضاً للتمديد، نكتشف بكل سهولة مناورات هؤلاء لكي أقول نفاقهم. فهؤلاء موجودون في الحكومة، وبقوة وبشراسة، لكن لم نقرأ أو نعلم أو نسمع ان أحداً من هذه الأطراف قد قدم اقتراحاً واحداً، يطالب فيه (بالعنجهية ذاتها التي يعارض فيها التمديد) بتوفير مستلزمات الانتخابات النيابية، ومواقيتها وأماكن التصويت، وآلياتها وموظفيها. وقد عرفنا ان الانتخابات تستلزم آلاف الموظفين داخل غرف التصويت وإلى 33 ألف جندي من الجيش، وإلى ميزانية تُقدر بمليارات الليرات…. كل هذا غير متوفر لأن «عباقرة» الرفض، لم يطالبوا به. وهذا يعني انهم ساهموا قصداً في تعطيل الانتخابات النيابية كما ساهموا ويساهمون في تعطيل الانتخابات الرئاسية. وهذا يعني انهم، ضمناً وبحبور شديد، مع التمديد. وما رَفْعُهم الأصوات ضده، سوى نوع من الابتزاز السياسي الرخيص. (أو كأنما توزيع أدوار). والسؤال الجميل «انه اذا كانوا يعتبرون ان هذا المجلس الممدد له غير شرعي، فلماذا لا يستقيلون منه؟ ولماذا يبقون نواباً في مجلس غير دستوري؟ هذا هو الغريب والطريف أيضاً. ولكي يعززوا «مواقفهم» المزدوجة اعتمدوا على بعض الاستطلاعات «المشبوهة» التي تشير إلى «اكتساح كل المناطق المسيحية بما فيها كسروان والكورة… 

ويذكرني هذا الاستطلاع باستفتاءات النظام السوري، الرئاسية بنتيجتها الحتمية 99،99 % . (لكن أين هي هذه الـ99،99 % اليوم في الحرب السورية؟) ونظن أن هذا الاستطلاع «المزيف» ليس سوى اشارة إلى استمرار تعطيل الانتخابات الرئاسية! ونظن ان كل الأقاويل بأن التمديد للمجلس يمهد لانتخاب الرئيٍس، ربما محض مناورة وامتصاص ووعود كمونية!

حزب الله، في ظننا وبلبالنا، يتبنى ترشيح عون حتى الآن كذريعة، مجرد ذريعة، لإبقاء قصر الرئاسة فارغاً. فحزب الفراغ «المطلق» لا يستطيع (وبوجود المرشد الايراني انتماء مطلقاً) أن يرى أي شيء مليئاً، أو في مكانه، أو في زمنه، أو في تاريخه. فهل يستطيع حزب الفراغ (ومَنْ وراءه من «فراغيين!) أن يرى، بعين الرضى سوى الفراغ، حوله، وفوقه وتحته!

أوليس الفراغ الذي أحدثه بوجود سلاحه وممارساته غير الشرعية… هو الذي فتح لبنان على أبواب جحيم الحروب السورية والإرادات الخارجية والاستبداد؟

كلمة أخيرة: الذين رشقوا التمديديين على أبواب المجلس بالبندورة… يجب رشقهم بالبيض الفاسد وربما بأكثر لأنهم هم الذين افرغوا رئاسة الجمهورية.

بول شاوول