يحج الأرمن الآتون من كل مغترباتهم الى متحف ذكرى الإبادة الأرمنية، او «دزيزيناغبرت» المطل على يريفان. يسقط الزمن هنا. كأن المجزرة وقعت بالأمس. وفود من كل الأعمار. أفراد او مجموعات، يحملون وروداً معهم، يضعونها أمام الشعلة المضاءة باستمرار بتأثر واضح. كثر لا يجدون حرجاً في دموعهم يغسلون بها جروحاً تاريخية صارت جزءاً من هوية هذا الشعب وتشكّل وعيه.
في أروقة المتحف الصغير تتداخل الصور والمخطوطات. منها المأساوي ومنها الحزين وبعضها يجدد الأمل. تستقبلك صور «افرورا مارتيزايان». هي قصة سيدة عادية، أضاعت أخاها «فاهان» على دروب التهجير. فتشت عنه وانتظرته سنوات، متعهدة ألا تتزوج الى ان تجده. مرّ العمر سريعاً. لم تنس «افرورا» ولم تسامح. لكن الحياة تستمر. صورها في المتحف تروي الكثير من الحكاية. تزوجت وأنجبت وعانت أمراضاً نفسية كثيرة. لكنها عاشت حتى عمر الـ89 سنة لتروي لأولادها وأحفادها ومعارفها الكثر في نيويورك قصة «فاهان» الذي ذهب مع وطنه ذات غفلة من كل ضمير.
تنطبع صور كثيرة في الذاكرة. فتى صغير تظهر آثار الصلب على يديه. أم ثكلى متقوقعة الى جانب جثث أبنائها الخمسة في منطقة قرب «اتشميازين». صبايا عاريات مسمرات على صلبان، تتدلى شعورهن الطويلة على اجسادهن لتغطي ربما بعضاً من عورات الإنسانية.
لكن الألم يتضاعف عند الأرمن حين يمرون على أسماء الأدباء والشعراء والصحافيين والمثقفين والمؤلفين الموسيقيين الشهداء. فهذه هوية أرمينيا ووجهها الذي يحبون أن تطل منه على العالم.
حين دعت السلطات الأرمنية الى مؤتمر «على سفوح ارارات»، لم تكن فقط لتذكر بالجبل السليب. رفعت شعار المئوية الأولى للإبادة «أنا أتذكر…أنا أطالب». وأرادت ان توسع مروحة الداعمين والمطالبين فشارك مندوبون من 160 مؤسسة اعلامية من العالم. لم يكن مفاجئاً ان يتشارك هؤلاء في الثناء على فعالية ونشاط الجالية الأرمنية في بلدانهم، من الأرجنتين الى رومانيا وبولندا وروسيا وإيطاليا واليابان واليونان، كما من الدول العربية من مصر والكويت وسوريا، إضافة الى لبنان وحتى من تركيا.
تحدث كثر. استعادوا التاريخ. فصلّوا في الحاضر. وأكدوا جميعاً على أن أرمينيا بلد مسالم. لكن للسلام شروطه وهو «كالتانغو يحتاج إلى اثنين»، كما قال احد الآباء في «اتشميازين» وكما لخصها بوضوح الكاثوليكوس كراكين الثاني بطريرك «اتشميازين» عندما سئل «لماذا لا تسامحون تركيا وتفتحون معها صفحة جديدة وأنتم مسيحيون والمسيح أوصى بالمسامحة». رد الكاثوليكوس بثقة «نحن أناس لا نطلب سوى السلام ونسعى للعيش بحسب تعاليم الإنجيل. لكن حتى المسيح يطلب الإقرار بالخطأ والرجوع عنه شرطاً للمسامحة».
بالوضوح نفسه، وإن بتفصيل اكبر، تحدث الرئيس الارمني سيرج سركيسيان مؤكداً حرص بلاده على السلام، وقال إنه دعا «رئيس تركيا رجب طيب أردوغان ليشارك العالم في الاحتفالات الرسمية التي ستقام في 24 إبريل في يريفان، ولكن الحكومة التركية قررت الاحتفال هذا اليوم بمعركة وقعت خلال الحرب العالمية الأولى بهدف تشتيت انتباه المجتمع الدولي». ليخلص الى أن «تركيا ما زالت تتبنى سياسية الإنكار بالرغم من وقوع جرائم إبادة بشرية مثل الهولوكوست وعمليات الإبادة في روندا وأخيراً ما يقوم به تنظيم داعش في العراق وسوريا».
تحدث بالتفصيل عن بلاده وهمومها ومشاكلها، خصوصاً مع اذربيجان، لكنه اكد انه «بالرغم من المصاعب فإن ارمينيا تسعى إلى أن تكون دولة ديموقراطية تتبنى فكرة الاقتصاد الحر، وتتمتع بعلاقات الصداقة مع الدول الاخرى، فضلا عن تنامي مجتمع مدني في البلاد وسيادة القانون وحقوق الإنسان».
في سعيها الى كل ما ذكر سركيسيان، تستند ارمينيا وشعبها الى إرث إيماني عميق. يمكن لزائر إحدى اقدم الكنائس الأرمنية «خور فيراب» او «الحفرة العميقة»، ان يتلمس عمق جذور المسيحية في هذا البلد. هنا حيث تختلط الحقائق عن القديس كريكور المنور، يبقى المؤكد ان من الحفرة العميقة خرجت المسيحية لتكرس أرمينيا اول دولة مسيحية في العالم.
هنا يقف الأرمن وينظرون الى الشريط الشائك الذي يفصلهم عن «أرارات» المرتفع على مرمى عشق من قلوبهم.