عشية الحوار السني ــــ الشيعي، نقاشات مسيحية تدور في الكواليس، ليس في شأن مغزى الحوار، بل في ما يشبه المراجعة لدور الحليف السني منذ «استقلال 2005» وما قبله، وصولاً الى الحوار مع حزب الله… وما بعده
لماذا يتحول الكلام في النقاشات المسيحية عن خطورة تخلي الشريك السني عن حلفائه المسيحيين في النظام اللبناني إلى ضرورة حيوية عند المفاصل الأساسية في الحدث اللبناني؟ ولماذا يتم التصويب على العلاقة بين هاتين الطائفتين في ظل الانفجار العنفي وتهجير المسيحيين في الشرق الأوسط.
ليس الكلام اليوم لمناسبة الحوار السني ــــ الشيعي فحسب، إنما ينطلق أيضاً من التجربة التي خاضها المسيحيون مع الطرف السني منذ عام ٢٠٠٥ حتى اليوم، في وقت يستعد فيه الفريقان لإحياء ذكرى عشرة أعوام على انطلاق فكرة التلاحم بين الطرفين على أسس يفترض أنها كانت صلبة في حينه.
حساسية الكلام عن الالتباس الحاصل في العلاقة المسيحية ــــ السنية وما تتركه من تداعيات داخلية تعبر عن نفسها في مجالات مصيرية، ومنها انتخابات رئاسة الجمهورية، هي في وجود معترضين يحمّلون اليوم الطرف الشيعي وحده مسؤولية انهيار النظام بتركيبته الحالية وانفجار الوضع الداخلي. المشكلة أن لا أحد يرغب في نزع مسؤولية التدهور عن أي جهة سياسية مسيحية أو إسلامية، وخصوصاً لناحية دور حزب الله وتأثيراته في حربه السورية وفي تضعضع فكرة الطائف التي بنيت عليها الجمهورية الثانية، في أوقات مصيرية، فضلاً عن الاختلاف الجذري بينه وبين الأطراف اللبنانيين حول المحكمة الدولية ومفهوم سلاح الحزب ودوره.
خشية من تخلّ جديد ومن أن الأفق الإقليمي لم يعد ملائماً لميثاق ١٩٤٣ ولا للطائف
لكن القراءة المعمقة في تاريخ العلاقة المسيحية ــــ الشيعية، تظهر أن الطرفين لم يبرما عقداً اجتماعياً ثنائياً انهار عند أي احتكاك. منذ قيام دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ وحتى تاريخنا، لم نشهد ثنائية مسيحية ــــ شيعية موسعة. جل ما حصل عام ٢٠٠٦ هو توقيع ورقة التفاهم بين حزب الله وطرف مسيحي هو التيار الوطني الحر، لا أكثر ولا أقلّ. وهي تجربة لم تتمكن من أن تصمد أمام حسابات الربح والخسارة في تأليف الحكومات على سبيل المثال، وبقيت محصورة في إطار التلاقي داخل تحالف ٨ اذار وحلفائه المسيحيين حول نقاط تقاطع إقليمي ومحلي.
في المقابل، لا تزال المعضلة عالقة بين المسيحيين والطرف السني لأنها مزمنة، وكان هناك تفاؤل عام ٢٠٠٥ في أن تكون في طريقها الى الاندثار. لكن ما حصل في العامين الأخيرين، وصولاً الى عدم انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف الحكومة ودعوة الحوار الأخيرة، يحتم التوقف قليلاً وإعادة قراءة مجريات العلاقة بين الطرفين.
حين انبثقت فكرة ميثاق ١٩٤٣، غامر الموارنة حينها بالتخلي عن الثنائية الدرزية ــــ المارونية التي استمرت ردحاً من الزمن لصالح الثنائية المسيحية ــــ السنية. ورغم كل العثرات والحروب التي عرفها الدروز والموارنة في جبل لبنان، تمكنت هذه الثنائية من العيش عقوداً عدة، في زمن السلطنة العثمانية وما بعد انحلالها. عشية الاستقلال وبعده، وفي ظل نمو الدول العربية ذات الامتداد السني، ومع تطور الواقع السني خصوصاً في بيروت وطرابلس وصيدا، صاغ الموارنة مع السنة ميثاقاً لبنانياً يقول عنه الرئيس بشارة الخوري في مذكراته، شارحاً لقاءاته مع الرئيس رياض الصلح، إنه «لترسيخ الحياة الاستقلالية بين المسيحيين والمحمديين (…) وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة: استقلال لبنان التام والناجز من دون الالتجاء الى حماية من الغرب ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق».
إلا أن الميثاق انهار على دفعات، بدءاً من عام ١٩٥٨، مروراً باتفاق القاهرة وحوادث ١٩٧٣. ولم تكن حرب ١٩٧٥ إلا انكشافاً لانهيار هذه الثنائية، ولا سيما مع تموضع الطرفين في جبهتين أعادتا تأكيد الاختلافات بينهما. خرج السنة من مؤتمرات جنيف ولوزان وغيرها، وقد عملوا على تطوير موقعهم في المعادلة الداخلية، مستفيدين من دعم عربي ومن تأثير العامل الفلسطيني الى جانبهم في قلب التوازنات الداخلية.
انتهت الحرب باتفاق الطائف. وبحسب النقاشات المسيحية، هو جاء ليعيد إنتاج ثنائية مسيحية ــــ سنية، بعدما ذهب المسيحيون الى تغطية الاتفاق. لكن السنة هم الذين استفادوا منه في تعميق تجربتهم في الحكم، وخصوصاً بعد مجيء الرئيس الراحل رفيق الحريري بدعم سعودي ــــ سوري. في المقابل، انهزم الموارنة الذين أيدوا الطائف على أيدي شركائهم في الوطن وحتى في صياغة النص، خلال مرحلة تطبيق الاتفاق، منذ عام ١٩٩٠ حتى عام ٢٠٠٥. وخسروا تدريجاً مراكزهم في الحكم، على حد ما شرحته مذكرة المطارنة الموارنة الى الحريري آنذاك.
في عام ٢٠٠٥، أهدى الموارنة تجربة قرنة شهوان الى السنّة. فتحول خطاب الطائفة السنية بمكوّناتها بعد اغتيال الحريري إلى خطاب فيه نفحات القرنة وأدبيات بكركي. وصار معارضو مشروع الحريري في مجلس النواب، على مدى أعوام، حلفاء مع من أصبحوا لاحقاً تحت راية تيار المستقبل. من استفاد من مرحلة عودة السنة الى لبنان تحت شعار ثورة الأرز؟ ليس المسيحيون حكماً من ربح، لا بل إنهم بدأوا بعد التحالف الرباعي يراكمون خساراتهم، وسرعان ما تأثرت عودتهم الخجولة الى الدولة بفعل الشغور الرئاسي لمرتين متتاليتين. لم تسمح السنوات العشر الأخيرة بإقامة جسر ثقة صلب بين الطرفين، وهو الذي اهتز عند أول استحقاق جدي اسمه المشروع الأرثوذكسي وتأليف الحكومات المتعاقبة. ثمة شخصيات سنية مقربة من الحريري أيدت أكثر من مرة، وفي عز الخلاف السني ــــ الشيعي، التحالف مع حزب الله ولو على حساب الحلفاء من مكونات ١٤ آذار المسيحيين.
اليوم، على أبواب الحوار السني ــــ الشيعي، يعلن المسيحيون دعمهم الاتجاه الحواري، رغم استغرابهم ما يسمعونه من تبريرات لصقور المستقبل في دعم الحوار توازي تبريراتهم لدى ذهاب الحريري الى دمشق. لكن في مجالسهم الخاصة، يخشون من أن يتخلى عنهم السنة مرة أخرى، ومن أن الأفق الإقليمي لم يعد ملائماً لميثاق ١٩٤٣ ولا لاتفاق الطائف والعيش المشترك، أو حتى لتجارب تشبه تجربة عام ٢٠٠٥ التي يبدو أنها لم تبن على صخر، بل على رمل الصحراء.