تحول الحدث التركي حدثاً لبنانياً، بترقب ارتداداته، وأيضاً بفعل تضامن شرائح لبنانية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حتى في استخدامه القوة في قمع معارضيه والانقلابيين
بلورت إيران تدريجاً دورها في منطقة الشرق الأوسط، وضاعفت في الأعوام الأخيرة من حضورها فيه، من العراق إلى سوريا ولبنان.
في المقابل، ظلت تركيا ـ بحسب سياسي مطلع على الوضع التركي ـ تبحث عن دور، بعدما حاول الرئيس رجب طيب أردوغان منذ كان رئيساً للوزراء، اعتماد سياسة خارجية مختلفة عن تلك التي كانت تتبعها تركيا – أتاتورك تقليداً، والقاضية بالانكفاء عمّا يحيط بها، والانصراف إلى بناء الدولة وترتيب أوضاعها الداخلية. لكن تركيا أردوغان لم تتمكن من بلورة هذا الدور الخارجي، وإن سعت جاهدة، ولا سيما في الأزمات الإقليمية الأخيرة، لأن تكون لها كلمة فصل، وبقيت عاجزة عن ذلك.
مع تغير المعادلة التركية التي رغب أردوغان في إحداثها بتغيير نمط السياسة الخارجية، ولعب دور أكبر في العالم العربي ــــ الإسلامي، جرت محاولات عدة لقلب المنحى التقليدي بالابتعاد عن مدّ اليد التركية خارج حدودها والاكتفاء بإدارة شؤون الجمهورية العلمانية، ومعالجة مشاكلها، ومنها صراعها المزمن مع الأكراد. ومع التحول الذي رغب فيه نحو مزيد من الأسلمة وتقريب المؤسسة الدينية من الدولة، ظلت محاولاته في إطارها المحدود: اللعب على المشاعر الإسلامية والعربية، والخلاف مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في مؤتمر دافوس حول حرب غزة، وما جرى لاحقاً على هذا الخط، ومحاولة استجرار التعاطف العربي، وسحب القضية الفلسطينية من اليد الإيرانية.
حضور تركيا ظل هامشياً، ولم تتمكن من التدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية
وحتى لبنانياً، في العودة بعد حرب تموز عام 2006 إلى لبنان والجنوب عبر قوة عسكرية من خارج القوة الدولية، والإطلالة على لبنان من بيروت والعلاقة مع عائلة الحريري، والزيارات اللبنانية الرسمية لأنقرة، وزيارة وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو للكواشرة العكارية التي يتحدث أهلها التركية. لكن حضور تركيا ظل هامشياً وخجولاً، ولم تتمكن من التدخل المباشر في الشؤون اللبنانية الداخلية، واقتصر حضورها على بعض المظاهر في طرابلس وعكار وتعزيز علاقات اقتصادية وسياحية.
اندلاع حرب سوريا قلب مفاهيم الحضور التركي الذي سعى نحو عقد من الزمن إلى إبقاء الخطوط مفتوحة مع جميع القوى، إيران وسوريا ولبنان وأوروبا وواشنطن وموسكو. التبدل الجوهري في العلاقة مع النظام السوري والرئيس بشار الأسد غيّر كثيراً دور أنقرة، بعدما أصبحت طرفاً في الحرب، بدعمها للمعارضة ومطالبتها بإسقاط الرئيس السوري. تبدلت طبيعة الحضور التركي في سوريا والعلاقات مع الدول العربية، من دون أن ننسى العلاقة غير السوية مع السعودية أيام الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، ومحاولة أنقرة سحب بساط زعامة العالم الإسلامي من يد الرياض، فضلاً عن علاقتها بمصر التي تشكل حجر زاوية أساسياً في العالم السني. لكن أنقرة بزعامة أردوغان أرادت، بعد حرب سوريا، تثبيت دعامة «سنية « لها، من خلال التحكم بالمعارضة لإسقاط الأسد، وحضور دولي من خلال الإمساك بورقة النازحين السوريين إلى أوروبا.
جاء الانقلاب العسكري ليضع تركيا على محك داخلي وإقليمي ودولي. ومهما كانت هوية القائمين به، فإن تركيا ستعيش ردحاً من الزمن تحت وطأة ارتداداته. وهذا أمر سينعكس حتماً على علاقاتها ودورها بدول المنطقة، لأنه كشف أن أردوغان (من خلال ردّ الفعل الداخلي وحملته على منتقديه من دول العالم) لم يعد قادراً على العيش على التناقضات ومحاولة الإفادة من العالم الإسلامي من جهة، فيأخذ منه ما يفيده، والعالم الغربي من جهة أخرى، من دون أن يدفع ثمن سياسة البيع والشراء التي يقوم بها منذ سنوات.
ما يعنينا لبنانياً، هو تحول الانقلاب التركي مادة سياسية في الخلاف الداخلي، وعنصر جذب بحملة تأييد لأردوغان. علماً أن لتركيا، كما سبق، حضوراً هامشياً في لبنان، ولم يلحظ لها أي تدخل فعلي في شؤونه الداخلية. وإذا كانت قوى في 8 آذار قد نظرت إلى الانقلاب بوصفه وسيلة لإطاحة خصم سوريا وإيران وداعم المعارضين السوريين، فإن تعاطي بعض الأوساط السنية مع الانقلاب وتداعياته التركية الداخلية وردود الفعل الدولية، ولا سيما تجاه أسلوب القمع الذي يعتمده أردوغان ضد معارضيه، والمواقف المؤيدة له، جنح أيضاً في اتجاه استثمار إفشال الانقلاب، ما يفتح الباب أمام سيل من الأسئلة في الوسط السياسي، حول طبيعة ردّ الفعل هذا، سياسياً أو شعبياً، تجاه السلطة التي يمثلها أردوغان، بعدما تحول الحدث التركي مناسبة لتنفيس الاحتقان، واستعادة أمجاد الدولة التركية. لماذا التفاعل مع هذه السلطة في الوسط السني اللبناني؟ هل هي القوة التي كانت تمثلها تركيا العثمانية تاريخاً، ويحاول أردوغان مع كل المشاكل التي تعتري بلاده أن يظهر بها من خلال الأساليب العنفية وقمع المعارضين والمتظاهرين والانقلابيين؟ أم أنه لا يمكن فصل سوريا ودور إيران وحزب الله في حربها، عن هذا الشعور بوجود قوة سنية مماثلة تشكل توازن الرعب هذا في المنطقة، وتجعل منها نداً لإيران. فبعد حرب تموز لم يكن الدخول التركي إلى لبنان دخول المتحدي لحزب الله. بل العكس، كان أردوغان لا يزال ينسج علاقة مع الأسد ومع إيران. لكن سنوات الحرب السورية ورفض دور حزب الله، جعل الشريحة السنية تنظر إلى أي دور سني قوي يتعاظم تدريجاً، على قاعدة أنه تنفيس للاحتقان تجاه سياسة إيران وحزب الله. فكيف الحال ومن يحاول اليوم أن يفرض قوته ضد معارضيه، هو خصم الأسد والقائم بتقريب المؤسسة الدينية من الإدارة التركية والعامل على قمع المتمردين العلمانيين.
إشكالات كثيرة أفرزها الحدث التركي، وسيناريوات عدة ترسم مرحلة ما بعد الانقلاب. لكن في لبنان، لا يوجد سوى منظار واحد لرؤية أي حدث إقليمي من وزن الانقلاب و»انتصار» أردوغان، حرب سوريا وموقع حزب الله فيها. ما عدا ذلك، سؤال برسم مؤيدي أردوغان، من اللبنانيين: هل يعكس ردّ الفعل «الفطري» ـ إذا صح التعبير ـ بتأييد الرئيس التركي، الجو السني اللبناني كله، وأين موقع السعودية، ومصر مثلاً التي لا تجمعها علاقة جيدة بتركيا سابقاً وبأردوغان حديثاً، علماً أنها طالما شكلت تاريخياً موقعاً متميزاً لسنّة لبنان؟