جرياً على عادة اكتسبها في الفترة الأخيرة في الدفاع عن السعودية عند كل شاردة وواردة، أطلّ سعد الحريري من خلف «غربته» ليردّ على الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في الكلام الذي توجّه به ضدّ مملكة النفط.
لا يجدّ الشيخ سبباً أكثر أهمية من تعرّض الرياض لسهام الانتقاد من الداخل اللبناني كي يستيقظ من كبوته السياسية، بينما لا يستفزه أي مشهد داخلي يحتاج الى تصويب أو تدخّل.. ولو كان حتى لفظيا!
ومع ذلك، قد لا تثير غيرته على المملكة الاستغراب، بقدر ما كان يثيرها سمير جعجع حين كان ينفعل دفاعاً عن السعودية ويسارع الى تزويد «قاذفاته» بإحداثيات الضاحية الجنوبية لتكون هدفاً لـ «صواريخه».
أما الآن فصار لسيّد معراب حسابات أخرى تملي عليه النأي بنفسه في كثير من الأحيان عن الاشتباك العابر فوق رأسه، بين حلفائه وخصومه، فيجلس في صفوف المتفرجين والمترقبين. طبعاً، ليست ورقة «اعلان النوايا» هي التي كبّلته ولا دفعت به الى تجميد راجماته ولا ألزمته بهذا الحياد، وانما ثمة دوافع كثيرة أعادت ترتيب حساباته.
الأكيد أنّ الوثيقة كرست هدنة غير معلنة بين «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية» لا تزال صامدة بوجه عواصف الصراع الداخلي، بعدما تبيّن للفريقين بعد طول زمن، أنّ بينهما الكثير من الأهداف المشتركة لبنانياً ومسيحياً، وإن اختلفا في الأسلوب والطريقة والممر.
ولهذا قررا عن سابق ادراك وتصور وضع كومة خلافاتهما الثقيلة جانباً والعمل على تطويقها، كي لا تكون عثرة أمام تقدم العلاقة مستقبلياً، وسبباً للتقاتل السياسي. هذا لا يعني أنهما سيذوبان في بعضهما البعض، أو أنهما سيتخففان ببعض التنازلات. كل ما في الأمر تحييد بعضهما البعض عن الصراع الثنائي.
هناك من يقول إنّ سمير جعجع بلغ أقصى ما يمكن بلوغه في سلّم الزعامة الشعبية. مهما ساير «تيار المستقبل» وزايد عليه في المواقف، ومهما صبّ تركيزه على الهيكلية التنظيمية لحزبه وكرس له ساعات من المتابعة، فهو يقف عند الخط الأخير. ولا بدّ من تغيير استثنائي في مكان ما يسمح له بالقفز فوق هذا السياج.
هكذا يظن راصدوه أنّ الرجل بات يخطط لكي لا يكون مرفوضاً من جانب الشريحة الواسعة من المسيحيين، ويعتقد أنّه على متن «الورقة» يستطيع عبور هذا الجسر ليصير مقبولاً، ليس فقط من الجو البرتقالي ولكن حتى من جانب مسيحيين محايدين لا يهضمون الصراعات المسيحية ويفضلون التقاء زعمائهم تحت سقف المصالح المشتركة، أو بالحد الادنى أن يتجنّبوا تحولهم الى أكياس رمل للآخرين.. وفي بعض الأحيان، مدافعهم.
ولكن ما يتجنّب سمير جعجع فعله كسباً للجمهور، يتجنّد سامي الجميل للقيام به، وكأنه ذاهب الى الحج بينما شريكه المضارب يعود منه. مع بروز الشاب الكتائبي الى الواجهة، أعطى انطباعاً أنه يحاول رسم بورتريه لنفسه مغايراً عن النماذج التقليدية القائمة. أراد تحييد نفسه عن اصطفاف تحالف الآذاريين من دون أن يطلّقه وأن يمدّ جسور تواصل مع خصومه ولكن من دون أن يهادنهم أو أن ينضم اليهم. وإذ برئيس «الكتائب» يقف بالمرصاد للجنرال ميشال عون ويصرّ على توجيه كل سهامه باتجاه الرابية، وكأنه بذلك يستيعد تجربة «القوات» من أولها، لا من آخرها.
خلال كل مسار التعيينات العسكرية ومن بعدها مشروع الترقيات، حرص الكتائبيون على التأكيد أنّهم لن يقفوا عثرة بوجه العميد شامل روكز، وقد يصوتون لمصلحة تعيينه قائدأً للجيش. بدوا طوال تلك المرحلة أكثر من ايجابيين، الى أن دقت ساعة الحسم: وقفت الصيفي بمساندة الرئيس ميشال سليمان بوجه مشروع الترقيات ورفعت الفيتو بحجة ممانعة المسّ بهيكلية المؤسسة العسكرية.
وأكثر من ذلك، ذهب الوزير سجعان قزي الى حدّ القول إنّ «اجهاض تسوية ترقية العمداء، وسام على صدرنا».. وكأنّ المطلوب كان هو تسديد ضربة موجعة في وجه العماد ميشال عون من خلال منعه من تحقيق هذا الربح، حتى لو كانت قيمته «نجمة» لا أكثر تعلّق فوق كتفيّ شامل روكز.
وفي ملف النفايات لم يكن الوضع في أفضل حال. تحمّس سامي بوجه شركة «سوكلين» لدرجة تقديم دعوى قضائية يسأل فيها عن الهدر والفساد في هذا الملف، ويحمّل «دجاجة الذهب» من دون أن يسميها مسؤولية هذا المزراب المالي. وحين أتت خطة أكرم شهيب التي تركت محلاً للشركة في العمل، وضع بصمته على الخطة، ليحمّل «تكتل التغيير والاصلاح» مسؤولية التعطيل. بمعنى آخر، حار ودار الكتائبيون وعادوا الى نقطة الصفر: ميشال عون.
وحين جلس رئيس «الكتائب» الى طاولة الحوار، تمحورت كل مطالعاته حول مسألة واحدة: هاتوا أيّ رئيس الا «الجنرال العتيق». فالمسيحيون، برأيه، لا يملكون ترف اختيار رئيس بسبب انقساماتهم. وما بحث عنه الآخرون قدّمه الشاب على طبق من فضة.
لماذا كل هذا الجفاء؟
تبدأ القصة من ورقة «النيات». يُقال إنّ الشيخ الكتائبي لم يهضم فكرة تجاوزه من جانب «الجنرال» و «الحكيم» ليجتمعا حول وثيقة مكتوبة قد تقلّص المسافة بينهما، وتجعل من تفاهمهما مشروعاً قابلاً للحياة، وغير مستحيل كما كان الكل يعتقد، لا بل الخشية صارت من تحوّل هذه الورقة الى «قاشوش» بمقدوره أكل الأخضر واليابس.
ولم يتوانَ سامي في مجالسه الخاصة عن «رجم» الورقة وانتقاد تغييبه عنها، مع أنّ أكثر من رسالة رسمية وغير رسمية وصلته من الرابية ودعته للانضمام الى هذا التفاهم، لكنه رفض.
لهذا قرر السباحة خارج التيار لعله يتمكن من مواجهة المدّ الذي قد يأتي على كل شيء.
ولكن كتف الشعبية المسيحية لا تؤكل عن طريق التصويب على الزعيم الأول، ميشال عون. وفق شخصية مسيحية محايدة، برأيها، أنه مهما حمل سجل الرجل من اخفاقات وانتكاسات، فهو لا يُرجم بحجر التفريط بحقوق المسيحيين. وبالتالي من يسعى للقضم من طبقه، عليه أن يزايد عليه بمسيحيته، أن يقف الى يمينه، لا الى يساره. لا أن يصده أو يقف بوجهه على الحلبة، لأنّ النتيجة لن تكون لمصلحته.
من يخطط لوراثة بعض الجمهور العوني، كما تقول الشخصية ذاتها، لا يقف حجر عثرة أمام ترقية العميد شامل روكز، والكل يدرك الشعبية التي صارت للرجل. وما يفعله سامي الجميل اليوم هو كأنه يقدم أوراق اعتماده أمام «تيار المستقبل» للتعويض عن طلعاته ونزلاته في العلاقة، أو أن يعيد جمهور مسيحيي «14 آذار» الى تحت جناحيه طالما أنّ جعجع هو الذي قرر التمايز بمواقفه.
فهل ستنجح استراتيجية الشاب في أول عهده الكتائبي أم سيصاب بالعزلة؟