قدم حزب الكتائب استقالة وزيريه من الحكومة فانفجرت الاستقالة في وجهه، ولم تتعامل معها القوى السياسية كحدث استثنائي، على عكس ما جرى عام 2006 مع استقالة الوزراء الشيعة
لم يكن ممكناً إظهار مدى العجز المسيحي في شكل عام، وعدم تأثير القوى والاحزاب المسيحية في الساحة السياسية، لو لم يعلن رئيس حزب الكتائب سامي الجميل استقالة وزيري الحزب من الحكومة.
ولم يكن ممكناً أن تظهر مثل هذه اللامبالاة بما يقوم به أي حزب مسيحي، من الدرجة الاولى أو الثانية أو الثالثة، لو لم يُتعامل مع الاستقالة من باب العلم والخبر ليس إلا.
كان يجب أن تعلن استقالة وزيرين من الكتائب، سجعان قزي وألان حكيم، قبل أن يُترك الأخير مستقيلاً وحده، ويترك الخيار للوزير الثالث رمزي جريج المحسوب على الكتائب فيختار هو أيضاً البقاء في وزارته، حتى يتبين أن أياً من الاطراف السياسيين لم يتوقف لحظة واحدة عند هذه الاستقالة بمعناها الميثاقي أو بمعناها المسيحي العام، لجهة قرار حزب مسيحي عريق، يشارك بثلاثة وزراء، بترك الحكومة. لم يبادر تيار المستقبل إلى الكلام مع الجميّل إلا لأنه سيبقى يواجه وحيداً وزراء التيار الوطني الحر، ولم يتحرك القطبان الشيعيان فتركا أهل 14 آذار يقلعون أشواكهم بأيديهم، ولم يتحرك الوزراء المسيحيون الآخرون إلا للرد على نظرائهم الكتائبيين. لم تُحدث الاستقالة ما كان ينبغي أن تحدثه، على الصعيد الحكومي أو الوطني، لا بل إن الضربة الأقسى للاستقالة نفسها هي أن القنبلة السياسية ارتدّت على الحزب فانفجرت به، إذ تقلصت الخطوة من مرتبة الحدث الذي يفترض أن يهز الحكومة، الى الكلام عن الوزير الرافض ترك الوزارة فحسب. تعامل الوسط السياسي، وحزب الكتائب نفسه، مع الاستقالة على أنها شأن كتائبي داخلي، فتحول الحديث السياسي من الإحاطة بأزمة النفايات والاعتراضات على أداء الحكومة والمشاركين فيها، الى إجراءات طرد قزي من الحزب وردّ فعل الاخير والسباق بينه وبين رئاسة الحزب إلى بكركي للتنافس على خدمة المسيحيين والموارنة وتمثيلهم.
وفي وقت كانت فيه الاستقالة تفرغ من مضمونها بأسرع مما كان متوقعاً، جاءت مشاركة الجميّل في طاولة الحوار وكأنها تتمة لمسار سياسي طبيعي من حزب سياسي يشارك في الحكومة وفي الحوار. لا يريد الجميّل بطبيعة الحال السير على خطى القوات اللبنانية التي امتنعت عن المشاركة في الحكومة والحوار معاً، وتختلف بطبيعة الحال مقاربة العمل الحكومي عن أهداف طاولة الحوار الوطني. لكن الجلوس، بعد أيام معدودة على قرار الاستقالة، الى الطاولة مع القوى السياسية نفسها الممثلة في الحكومة، لا يمكن أن يحقق الاهداف التي توخّت الكتائب الوصول اليها من خلال قرار رئيسها.
في عام 2006 قدم الوزراء الشيعة استقالاتهم من الحكومة. كل ما حصل لاحقاً بات معروفاً. لكن الاستقالة لا تزال منذ ذلك الوقت تعبّر عن خلاصتين أساسيتين: أولا، الميثاقية التي ضُربت في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والثانية مصير المراسيم التي أقرّتها الحكومة ورفضتها الثنائية الشيعية، وظلت عالقة واستمرت مدار بحث طويل في السنوات اللاحقة.
لا يمكن البناء على تلك الواقعة الا بقدر البحث عن ارتداداتها والتأثيرات التي جعلت تلك السابقة تؤسّس لكل ما شهدناه في تشكيل الحكومات المتعاقبة، ولا تزال الساحة السياسية تعيش بفعل تأثيرات تلك المرحلة، فباتت تلك الاستقالة عنواناً لافتاً ومؤشراً مهماً لتوجه الثنائية الشيعية في الحياة السياسية. أما اليوم فلا يمكن التعامل مع الاستقالة الكتائبية على هذا النحو، بصرف النظر عن صوابية تلك الخطوة أو عدمها، لا من جهة الأداء الكتائبي، ولا من جهة تعامل الافرقاء الآخرين معها بلامبالاة موصوفة.
ثمة محطات مفصلية يظهر فيها الأداء المسيحي العام خارج السياق السياسي وخارج اهتمام الحلفاء، فلا يبنى عليه كثيراً في ترسيخ الزخم المسيحي تجاه أي قضية. هكذا يحصل اليوم في شكل واضح، إذ لا يمكن اليوم مقاربة موضوع أمن الدولة إلا من خلال دور الثنائية الشيعية في تحديد مصير الجهاز ونائب رئيسه. ولا يمكن الحديث عن مصير رئيس هيئة أوجيرو عبد المنعم يوسف، إلا من خلال تفرّد السنيورة وتيار المستقبل في تحديد هوية الذي سيخلفه، في حال اتخذ قرار إقصائه. في الجهة المقابلة، يخفت صوت وزراء التيار الوطني الحر في معركة المطالبة بالحقوق المسيحية التي فتحت منذ سنة، ولا أحد يعرف كيف انتهت وأين أصبحت حقوق المسيحيين، وتنكفئ الكتائب أو بالأحرى وزيرها الوحيد عن الحكومة، فلا يبقى لمعركة الحضور المسيحي الا العنوان. المشكلة ليست دائماً في أن الشريكين في الحكومة السنّي والشيعي يفرضان إيقاعهما ويتجاهلان الشريك المسيحي. المشكلة أيضاً في أداء القوى المسيحية التي لا تزال تتعاطى مع وجودها في الحكومة على «القطعة» وبالمفرق، وبحسب توجهات المرحلة وأهمية الكرسي الوزاري. تضاف الى ذلك أولويات واهتمامات تشغل القوى المسيحية حالياً ككل صيف. فقد يكون قرار الكتائب الخروج من الحكومة، في المكان المناسب، لكنه قطعاً ليس في الزمن المناسب، لأن صوت المهرجانات يعلو فوق كل اعتبار، وكل فريق مشغول بمهرجاناته. أما حديث السياسة فمؤجل الى ما بعد انتهاء موسم الصيف.