من الواضح أن المبادرات المتعاقبة لانتخاب رئيس الجمهورية قد تعثرت، الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها اقتراح الاتفاق على اسم النائب سليمان فرنجية.
هذا الفشل السياسي والدستوري المستمرّ، منذ أكثر من عام ونصف العام، بدأ يثير في الأوساط السياسية ووسائل الإعلام نوعاً من الاعتقاد، أو الاشتباه، بأن انتخاب الرئيس لن يحظى بالضوء الأخضر حتى يتمّ الاتفاق على تغيير النظام، أي «تعديل اتفاق الطائف».
إجراء تعديلات أو تغييرات على النظام الدستوري المعمول به منذ سنة 1990 ليس كفراً، إذا تمّ بالتراضي بين اللبنانيين، ومن دون إثارة حساسيات ونزاعات طائفية. فقد أثبت هذا النظام في السنوات العشر الأخيرة أنه بات قاصراً عن ضمان وحدة الدولة وحسن سير مؤسّساتها وتأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي.
بمعنى أخر، إن طريقة تطبيق النظام الحالي أوصلت الدولة إلى الشلل ومرافقها الحيوية إلى العجز والتعطيل فتوقفت، تقريباً، عن أداء وظائفها الأساسية، باستثناء الأمن والسياسة النقدية. وصل اللبنانيون في نهاية عقد من الزمن إلى نتيجة مروّعة: بدون «الضابط» الخارجي لا تستطيع الدولة اتخاذ أي قرار تشريعي أو تنفيذي إلا بالإجماع. وفي ظل أي انقسام سياسي مانع للتوافق أو الإجماع تصبح المؤسّسات والسلطات «نواطير ثلج» وهياكل بدون حراك.
المشكلة ليست في مبدأ التغيير أو التعديل، فالمراجعة الدورية لمسار الأنظمة وجدواها في المؤسّسات، العامّة والخاصّة، أمر صحّي وطبيعي ومطلوب. لكن مشكلة التعديلات الدستورية الموحى بها حالياً، بالتلميح والإيحاء حتى الآن، أنها تقتصر على الدعوة إلى إعادة النظر بتقاسم الحصص والصلاحيات بين ممثلي الطوائف في الشرائح العليا من إدارة الدولة.
هذه المنهجية تحلّ مشكلة البعض، ولكنها لا تحلّ مشكلة البلد، تنصف قيادات ورموزاً «طائفية ـ سياسية» ولكنها لا تحقق أي مكسب للجمهورية اللبنانية وشعبها البائس.
لا شيء يضمن أن تعديل الخريطة الطائفية في السلطة سيقود حتماً إلى استقرار في العلاقات السياسية بين قادة الطوائف. ثم إن التغيير ذا المنحى الطائفي لا يحلّ أكبر المشاكل التي واجهتها البلاد في السنوات الأخيرة، وهي تخلي الدولة عن وظائفها الاقتصادية والخدماتية بصورة كاملة تقريباً.
أمام عجز الدولة عن الإصلاح المالي والإداري وتنحّيها عن ناصية القيادة الاقتصادية، وتخليها، في غياب الموازنة، عن السياسة المالية، أقوى وأهمّ أدوات التأثير في الاقتصاد، تولى مصرف لبنان، مجبراً، المبادرة لتعويض غياب الدولة ومعالجة النتائج الكارثية لفوضى المال العام.
لكن الاعتماد على السياسة النقدية وحدها لتعويض غياب الدولة وباقي فروع السياسة الاقتصادية دفع المصرف المركزي إلى الإفراط في استعمال سلاح معدّلات الفوائد، وهو الأداة الأساسية المتوافرة لديه. معالجة «النفايات» الاقتصادية و«مخلفات» عدم الاستقرار السياسي بأدوات السياسة النقدية ضاعف مشاكل الاقتصاد بدل حلّها.
أدّى بالنتيجة إلى وصول دين القطاع العام، بما فيه التزامات مصرف لبنان، إلى ضعفي الناتج المحلي القائم، مستأثراً بستين في المئة من الموجودات المصرفية، مقابل حصة محدودة لتمويل القطاع الخاص تقارب ربع الموجودات. ولتغطية الإنفاق، الجاري بمعظمه، تترتب على الدولة التزامات طويلة الأمد قسم كبير منها بالعملات الأجنبية، مع أن هذا النمط من الاستدانة مؤذ وخطير وهو مسموح لتمويل الاستثمارات العامّة فقط، التي تقل حصتها عن عُشر الإنفاق العام.
إن المدة الوسطية لاستحقاق سندات الدين العام بالليرة اللبنانية تبلغ 40 شهراً، أما المعدّل الوسطي لعمر سندات العملات الأجنبية فيزيد عن الخمس سنوات، وكلا النوعين ينتج فوائد تزيد كثيراً عن أسعار الفوائد الطبيعية في الأسواق الطبيعية.
تعتقد أوساط رصينة ورفيعة في جمعية مصارف لبنان أن حجم تسليفات المصارف للقطاع الخاص ليست قليلة بل هي توازي حجم الناتج المحلي في لبنان، وهذه نسبة غير عادية بالمقارنة مع تسليفات المصارف للقطاع الخاص في البلدان الأخرى. وهذا صحيح، ثم إن المصارف تمتنع عن «التورط» أكثر في تمويل القطاع الخاص بسبب الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة، وليس على سبيل التقاعس. ولكن بلوغ ودائع المصارف ثلاثة أضعاف الناتج المحلي وموجوداتها 365% من الناتج، يظهر فرص التمويل المهدورة بفعل الظروف القائمة وتعطيل الدولة والنتائج البالغة السلبية لإحلال السياسة النقدية محلّ كل السياسات الاقتصادية.
أبرزنا هذا الجانب من المشكلات الراهنة المؤلمة كمثل فاقع عن المدى الذي وصل إليه لبنان بفعل العقبات المنيعة التي يواجهها النظام السياسي، العقبات التي فشلّت الدولة وعطلت المؤسّسات. والعبرة أن أي تعديل في نظام لبنان الدستوري باتجاه إعادة توزيع «كعكة» السلطة بين الطوائف لن يكون حلاً لأكثر المشاكل خطراً على البنيان الاجتماعي وعلى مستقبل البلاد.
التغيير الصحيح يجب أن يضمن وحدة الدولة واستمرارية مؤسّساتها وقيامها بكل وظائفها، من دون عقبات، في كل الأوقات.