على الأرجح، لا يتحمَّس عدد من النافذين لإجراء الإنتخابات البلدية. ولذلك، محكوم عليها بالتعطيل. والإمتحان الأوّل في هذا المجال سيكون غداً: هل سيتمّ رصد المبلغ المطلوب لتسديد النفقات الإنتخابية في مجلس الوزراء، وقيمته نحو 31 مليار ليرة؟
فوق الطاولة كلّ القوى تطالب بالانتخابات البلدية. وأما تحتها، فأيدي كثيرين تعمل للتعطيل. والصورة شبيهة بما جرى عشية التمديد الأوّل للمجلس النيابي. والأرجح أنّ نهاية اللعبة ستكون مشابهة.
في «الامتحان الشفهي» كلهم ينجحون. لكنّ العبرة في التطبيق. ولذلك، فالقراءة الموضوعية للمواقف تقتضي البحث عن مصلحة كلّ حزب وتيار، لا الاسترشاد ببياناته السياسية.
وهنا تظهر الخريطة الآتية:
1- «التيار» و«القوات» مستعجلان إجراء الانتخابات لأنهما يريدان الإفادة من التحالف «الطازج» بينهما وتعميمه في الانتخابات البلدية، بحيث يتقاسمان معظم القرى والبلدات ذات الغالبية المسيحية، خارج المناطق الطاغية الحضور لزعامات مسيحية أخرى (كما في زغرتا والمتن مثلاً، وكما في بشري حيث لا يقاسم عون «حليفه» جعجع).
وثمّة كلام على أنّ الحزبين يعملان لتوسيع هامش التلاقي بينهما ليشمل القطاعات النقابية والطالبية والبلدية. ولذلك، غرَّد الدكتور سمير جعجع عبر «تويتر» متحدِّثاً عن «حزبين كبيرين» على وشك التوافق على التمديد للمجالس البلدية. ولاقاه النائب ابراهيم كنعان بتحذيراتٍ من تعطيل الانتخابات. وليس ضرورياً طرح السؤال: مَن تقصد معراب والرابية؟
2- بناءً على هذه الحماسة «العونية»- «القواتية»، يفضِّل النائب وليد جنبلاط تأجيل الانتخابات حتى خلط الأوراق مجدّداً. وعلى رغم أنّ الانتخابات البلدية هي معركة إنماء وعائلات ومحسوبيات قبل أن تكون معركة سياسية، فإنّ القرى والبلدات المسيحية في الشوف وعاليه وبعبدا خاضت الانتخابات البلدية في 2010 ببصمة سياسية واضحة، حيث كان جنبلاط أكثر ارتياحاً لوجود الثنائية المسيحية التي أتاحت له التحكّم ببعض مفاصل اللعبة. وهذا الأمر قد يبدو أشدّ صعوبة بتقارب عون وجعجع.
3- ليس تيار «المستقبل» في الوضعية المثالية لخوض انتخابات بلدية على مستوى الشارع السنّي في كلّ لبنان، من صيدا وجوارها إلى بيروت وطرابلس والمنية- الضنية وعكار وانتهاءً بعرسال وقرى البقاع الغربي.
فالتحوُّلات المختلفة التي طرأت على المزاج السنّي، خصوصاً في غياب الرئيس سعد الحريري عن لبنان ليست قليلة. وربما يحتاج «المستقبل» إلى طاقات عملانية كبيرة لتسيير الماكينة الانتخابية المعروفة بقوّتها تقليدياً، وهي ليست في وضعها المثالي حالياً.
كما أنّ تقارب عون- جعجع قد يترك انعكاساته في بعض المعارك، وخصوصاً في بيروت.
4- يقول البعض في 14 آذار إنّ الثنائي الشيعي، «أمل» و»حزب الله»، ليس متفرِّغاً لعملية لا قيمة لها في ميزان التوازنات السياسية حالياً، وإنّ «الحزب» منشغل، مع قواعده، بمهمات ووظائف أمنية وعسكرية مصيرية في سوريا ولبنان، كما تنشغل كوادره السياسيون بملف الاستحقاق الرئاسي الضاغط.
لكنّ مصادر «الثنائي» ترفض تماماً هذا «الإتهام»، وتؤكد أنّ التنسيق قائم بين «الحركة» و«الحزب» على قدم وساق، ومنذ أشهر، استعداداً لأوسع تعاون في الانتخابات البلدية بين الطرفين. فلا مشكلة لهما إطلاقاً في أيّ منطقة، ولا منافسين حقيقيين لهما، لا في الانتخابات البلدية ولا الانتخابات النيابية.
وأما القوى الأخرى على الساحة، وغالبيتها تتمتع بتأثيرات مناطقية لا شاملة، باستثناء حزب الكتائب الذي له امتداداتٌ في البيئة المسيحية، فهي تدرس خطواتها وفقاً للتوازنات المطروحة.
وفي أيّ حال، يبدو الاتجاه العام إلى تأجيل الانتخابات البلدية. فكثيرون يدفعون بعامل الوقت تدريجاً نحو قرار تلقائي سيأتي في موعده، بعد أن يستسلم المطالبون بالانتخابات ويقتنعوا بعدم قدرتهم على القيام بشيء.
وفي الأوساط المعنية كلام على أنّ الاتجاه سيكون نحو إقرار التمديد للمجالس البلدية والاختيارية الحالية نصف ولاية، أيْ ثلاث سنوات. والتمديد لأعضاء المجالس البلدية لا يعني التمديد لرؤساء البلديات، بل يقتضي أن يقوم الأعضاء الممدّد لهم بانتخاب رئيس للبلدية. وهنا قد تلعب التوازنات السياسية الجديدة والمصالح العائلية والمحسوبيات دوراً في اختياره.
وأما تبرير التمديد فهو جاهز، ومستوحى من تبريرات التمديد للمجلس النيابي. والأهم بالنسبة إلى القوى السياسية التي مرَّرت التمديد للمجلس مرتين أن يتمّ التمديد اليوم للمجالس البلدية، وإلّا فإنّ الناس سيسألونها عن سبب الاستمرار في عدم إجراء الانتخابات النيابية.
وستكون التداعيات مضاعفة في البلدات التي حُلَّت فيها المجالس البلدية، أو تلك المُحدثة، والتي تنتظر بفارغ الصبر إجراء الانتخابات لبناء هيكلياتها وتنشيط الحياة فيها، وهي في حاجة ماسّة إلى الإنماء.
هل هذه الخلفيات وحدها تقف وراء التوجّه إلى تعطيل الانتخابات البلدية؟
البعض يعتبر أنّ تعطيل الانتخابات البلدية، أيّاً تكن مبرّراته الظاهرة، ليس في العمق سوى جزء من عملية التعطيل الشاملة التي يُراد إغراق البلد فيها، وهي تشمل الشغور في موقع رئاسة الجمهورية والتمديد للمجلس النيابي وشلّ حركته، وتعطيل العمل الحكومي والتعيينات في المؤسسات والأجهزة والمرافق العامة.
فاستكمال واقع التعطيل هو ما سيتكفّل بأخذ البلد نحو الفراغ الشامل الذي سيضع لبنان في مواجهة الخيارات المصيرية التي سيأتي أوانها مع نضوج الخيارات الكبرى في المنطقة، وفي سوريا خصوصاً. وهناك قوى سياسية تترقّب هذه اللحظة وتعمل لها. وفي ظلّ هذه السلسلة من عمليات التعطيل المتعمَّدة، لا يمكن تجاهل الخيط الدقيق الذي يربط في ما بينها.
ويقول البعض: حتى إشعار آخر، لا تتوقعوا أن يُنجز أيّ استحقاق، أو يُملأ أيّ فراغ، أو أن تعود الحركة إلى المؤسسات الدستورية كافة. فكلّ شيء يجب أن يكون معطلاً لأنّ ذلك هو الذي سيتيح «تأسيس البلد» من جديد.
وإذا كان فريق 14 آذار يعلن دائماً أنّ المحور المحسوب على إيران هو الذي يخطط وينفِّذ، مدعوماً بالقوة التي يتمتع بها، فالمثير هو أنّ فريق 14 آذار نفسه هو الذي يساعد هذا المحور على التنفيذ ويسهِّل له المهمات، في لعبة لم يعد قادراً أحد فيها على التمييز: مَن هو الفاعل ومَن المفعول به!