IMLebanon

ثورة بيضاء على الثنائية الشيعيّة

ليس خافياً على أحد انّ لبنان يعيش منذ عام 2005 صعوداً قوياً في نفوذ وقوة ثنائية «حزب الله» و»حركة أمل» على مستوى السلطة إلى حد انهما يتحكّمان في الشاردة والواردة ويحققان المكتسبات في عملية تبادل أدوار ومن دون أيّ مقاومة. لكن منذ فترة لاحت في الأفق ثورة بيضاء سلميّة من باقي المكوّنات السياسية لمقاومة هذه الثنائية، خصوصاً انّ لبنان بات مهدداً بفراغ مؤسساته الدستورية ويكاد أن يتحوّل دولة فاشلة. محطات عدة تشير بوضوح إلى فعالية هذه الثورة، أهمها إنحناء رئيس مجلس النواب نبيه بري أمام تأييد الثنائية المارونيّة-السنيّة لانتخاب رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون رئيساً للجمهورية وقوله انه سيكون في المعارضة، فهل بدأ عهد انحسار الثنائية الشيعيّة وبداية تراجع نفوذها؟

أثبت التاريخ انّ لبنان لا يُحكم بالثنائيات، بل تعجز أي طائفة مهما كان نفوذها وغطاؤها الإقليمي والدولي من الاستئثار بالسلطة لأنّ من شأن ذلك ان يدفع المكوّنات الأخرى إلى أن تثور عليها وتتّحِد ضدها مهما بلغت من قوة بالسلاح والإنجازات والبطولات.

وخلاصة ثلاثة عقود وأكثر من صعود ثنائية «حزب الله» – «حركة أمل» تشير إلى نهايات أكثر ممّا تؤسس لمراحل صعود سياسي وحضاري، بل وصل مشروع هذا الثنائي إلى أقصى ما يطمح إليه مشروع طائفي، إلى درجة انهما باتا يستطيعان أن يقررا إذا أرادا أن يأتيا برئيس الجمهورية الذي يرضيهما وهما نجحا فعلاً في تمكين كل من رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح»، وهما من مُعسكريهما، من الوصول الى أن يكونا مرشحَي الخصوم، بصرف النظر عن إرادة «حزب الله» الخفيّة وإرادة «حركة أمل» الحقيقية، إذ استفاد «حزب الله» من تنافس الرجلين لترك رئاسة الجمهورية فارغة وهو عارف بشدة المنافسة بينهما، رامياً الكرة تارة في ملعب المسيحيين وتارة في ملعب السُنّة، مستفيداً من الانقسام حول المرشحَين، للإستمرار في الفراغ، فيما هو يتفرّغ للمشاركة في الحرب السورية معزّزاً نفوذه وسلطته وتحكّمه في مفاصل الدولة.

من هنا، كانت نقطة التحوّل، وكان لا بد من استراتيجيّة ذكيّة لتحويل الخسارة إلى ربح، وتَطلّب ذلك الكثير من المرونة السياسية والتكتيكات للخروج من هذه اللعبة العقيمة عبر الخطوات الآتية التي شكّلت ملامح ثورة بيضاء.

الخطوة الأولى كانت في «تفاهم معراب» الذي جعل رئيس الهيئة الشرعية في «حزب الله» الشيخ محمد يزبك يقول: «لن نقبل بالعودة إلى الماضي حيث كانت المارونيّة السياسيّة، كما لن نقبل اليوم بتسمية سياسية أخرى رديفة…».

وأهمية هذا التفاهم انه نزع من الثنائية الشيعية حجّة «فليتّفق المسيحيون على رئيس»، بل فعل المسيحيون أكثر من ذلك، عندما تنازل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع عن ترشيحه، وأقدم على ترشيح عون، بحيث حَشر «الحزب» في زاوية اتهامه بالتعطيل إذا ما دعم مرشحه الرئاسي فعلياً ونزلت كتلته النيابية إلى المجلس لانتخاب عون، فيما كانت حسابات «الحزب» واهتماماته تتجاوز بأشواط هموم الداخل وتفاصيلها الضيقة.

لقد استردّ «تفاهم معراب» عون من أحضان «حزب الله» وأرجَعه نسبياً إلى بيئته المسيحيّة وثوابتها، إذ بدأ الامتعاض في صفوف «التيار» من عدم تحريك «الحزب» ساكناً لتسهيل وصوله إلى قصر بعبدا واقتصار دعم ترشيح عون على المواقف الكلامية.

لقد شعرت «حركة أمل» و»حزب الله» انّ هبوب الرياح الدافئة بين معراب والرابية ستهدد قدرات الثنائي الشيعي على التحكّم بسير الأمور وإبقائه وحدة قائمة على الساحة المحلية، بعدما كان مستفيداً من الخصومة بين «التيار» و«القوات» وتشَرذم الساحة المسيحية. وكل محاولات ضرب هذا التفاهم بين الحزبين المسيحيين الكبيرين باءت بالفشل لأنهما استشعرا بفعالية التحالف بينهما، وبالتالي قرّرا عدم العودة إلى الوراء مهما كان الثمن.

الخطوة الثانية تمثّلت بانسحاب «التيار الوطني الحر» من جلسات الحوار الوطني. وقد بات معلوماً انّ فكرة الحوار أتت بمبادرة من الرئيس بري الذي يشرف عليها ويتحكّم بها، وبات يدير اللعبة السياسية من خلالها، فكانت استفاقة «الوطني الحر» ثورة بحدّ ذاتها، لأنّ بري لم يُعر أهمية إلى المظلوميّة التي يتعرّض لها المسيحيون نتيجة عدم الأخذ بمطالبهم في انتخاب المرشّح الأكثر تمثيلاً لهم، والإخلال بالميثاقية في طريقة التعاطي مع قانون الإنتخابات.

كانت جلسات الحوار نوعاً من «المسكّن» يستخدمه بري لتمرير الوقت الضائع، لكنّ انتفاضة «التيار» سحبت هذه الورقة من يده، وحشرت الجميع للبَتّ بالإستحقاقات الأساسية تحت طائلة التصعيد.

الخطوة الثالثة كانت انتفاضة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على سلّة بري التي تتضمن الإتفاق المسبق على قانون انتخابات جديد، وعلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة وشكل الحكومة والبيان الوزاري بل قد تسلب رئيس الجمهورية صلاحية تسمية رئيس الحكومة والتوقيع على تشكيلها لصالح السُنّة والشيعة.

وقد تقيّده بشروط مسبقة تحدّ من صلاحيّاته وتحددها، وتجعلها رهينة اتفاقات من شأنها تفريغ الموقع المسيحي الأول من معناه بما يرضي المكوّن الأقوى بطبيعة الحال أي الثنائية الشيعيّة، ممّا سيؤدي إلى ضرب المناصفة التي تشكّل عصب الميثاقية لصالح بنى جديدة تُخرج المسيحيين من معادلة السلطة في لبنان.

إختار الراعي التوقيت المناسب ليُلقي عظة صارخة عبّرت عن هواجس مسيحيّة من أن تكون سلّة بري مدخلاً للمثالثة التي من شأنها سلب المسيحيين ما تبقّى من صلاحيات. وقد لاقت انتفاضة البطريرك تأييداً من مختلف المكوّنات المسيحية واللبنانية لأهميتها في ترسيخ فكرة لبنان الميثاقي لا لبنان الذي يُصاغ بأنامل إيرانيّة.

أما الخطوة الرابعة لهذه الثورة البيضاء فستكون بترشيح رئيس تيار «المستقبل» النائب سعد الحريري لعون، وقد أحرج الكلام عن هذا الترشيح الثنائي الشيعي. فـ«حزب الله» لم يعد يستطيع المماطلة أمام تأييد مكوّنين كبيرين في لبنان، أي الموارنة والسُنّة، لانتخاب عون.

وبالتالي، بات عليه الرضوخ وإرضاء حليفه المسيحي وإلّا سيخسره إلى الأبد. أمّا الطرف الآخر أي «حركة أمل» ورئيسها بري ففرغت «سلّته» من كل «الأرانب» لذا ارتفع صوته وصوت معاونه ضد الثنائية المارونيّة-السنيّة»، وإن نفى ذلك لاحقاً مؤكداً انه سيكون في المعارضة ضد العهد الرئاسي الجديد.

إنتخاب عون رئيساً سيلحق أوّل هزيمة بالثنائية الشيعية بعدما استنفدت كل ما في جعبتها من سلاح للمماطلة والمراوحة، وسيحصل هذا الانتخاب للمرة الأولى بمقتضى توقيت الساعة اللبنانية لا الساعة الإيرانيّة الإقليميّة وتوجيهاتها.