الإرهاب الأسود والوحشي، الذي ضرب بلجيكا بعد فرنسا، مؤلم ومحزن ومدان. لا يمكن ولا يجب أبداً التعلق بجرائم التاريخ ولا حتى بجرائم الحاضر لتجاهل ما يحدث على الضفة الأخرى من الشرق. الجريمة مضاعفة لأنها تطال الابرياء من المدنيين. أبشع ما في هذا الارهاب، ان عملياته سلسلة طويلة. من الصعب جداً حتى من المستحيل، تحديد الحلقة القادمة لهذا الارهاب المتنقل والمتوالد والمنتج في كل ولادة أنواعاً أخطر من الارهابيين والارهاب.
الشعور الشعبي بالعجز أمام هذا الارهاب يدفع الكثيرين الى الدعوة «للتعايش مع هذا الخطر القادم لأنه سيرافق اوروبا لسنوات». في هذه الدعوة شعور بالعجز ودعوة للتعامل معه كأنه «قضاء وقدر»، لتصبح خسائره ارقاماً متراكمة.
في الشرق، وفي «مصنع الارهاب الأسود» باسم الاسلام والحرب ضد الغرب، كل «حرب» تولد جيلاً جديداً من «الارهابيين» أخطر وأكثر إجراماً من الجيل الذي سبقه. لذلك فإن تنظيم «القاعدة» وإرهابه أصبحا وقائع يهتدى بها. ارهاب «داعش» حالياً اكثر اجراماً بعشرات المرات من ارهاب «القاعدة». الأخطر ان «داعش» انتج حالة من انضمام الشباب والصبايا تثير الف سؤال وسؤال في كيفية التوصل الى قناعة بالموت من اجل هدف خارج من التاريخ السحيق وعلى خلاف كامل مع الحاضر فكيف بالمستقبل؟
الانتحاريون الذين أدْمَوْا بلجيكا وقرعوا باب الخوف في ارجاء اوروبا بقوة، خارجين من عالم العصابات او على الاقل «زعران» الشوارع. لا تبدو عليهم ملامح «التثقيف الأصولي«، كأنهم بهذا من يشتري الامل بالآخرة تكفيراً عن ذنوبه في شوارع أوروبا. الخلاص بالانتحار وقتل اكبر عدد من الناس معه يكاد يصبح نهجاً.
كل هذا لا يفسر كل شيء. السؤال لماذا وكيف نجح «الخطاب الداعشي» في اختراق عقل وقلب شباب «الغيتوات» المنتشرة في اوروبا، خصوصاً ان أعداد الذين انضموا الى «داعش» في سوريا والعراق من الاوروبيين حتى لو كانوا من عائلات مهاجرة عربية وافريقية بالآلاف؟
هل التهميش والرفض المتبادل له، منه ومن محيطه، والبطالة واليأس من الاوطان الاصلية كافية لهذا الانزلاق نحو الجحيم؟ ابناء الضواحي في اوروبا يعانون يومياً وهم يفجرون معاناتهم بالتطرف. عندما يصبح «الحائط» ظهراً لآلاف الشباب، يسقط الامل تحت اقدام اليأس. المشكلة ليست احادية. الجميع مسؤول. ما معنى ان يقال لأي عربي او مسلم يحمل الجنسية الغربية سواء فرنسية او المانية او انكليزية، «انت عربي تحمل الجنسية»، في حين ان لا احد يذكر الهوية الاصلية لأي اوروبي غير جنسيته؟ اكبر مثال على ذلك من يسأل او يذكر او يقول علناً ان رئيس الوزراء الفرنسي هو اسباني تجنس بالجنسية الفرنسية عام 1982. لا احد يقول انه فرنسي من اصل اسباني او اسباني يحمل الجنسية الفرنسية، بينما اي عربي (لبنان ضمناً) يقال عنه عربي يحمل الجنسية الفرنسية. هذا الرفض ينتج رفضاً من الآخر.
هذا جانب من الازمة. اما السبب الآخر، فإن الغرب يتناسى يومياً ما يسببه من آلام لشعوب الضفة الاخرى من عالمهم. في البداية كانت فلسطين وآلامها وهي مستمرة بلا توقف. وحالياً سوريا وبشار الاسد. لا يمكن «إلحاق الهزيمة بداعش دون الذي استقدمها عن سابق تصور وتصميم بسبب ارهابه اليومي الذي من ابرز اسلحته السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة«. يوجد حالياً عشرة ملايين سوري على الاقل يعانون «الارهاب الاسدي». هؤلاء يشكلون خزاناً بشرياً طبيعياً للتطرف. في اساس هذا التحول عندما وضع الرئيس باراك اوباما استراتيجية ترك سوريا مساحة مفتوحة لحرب «الكفن ضد الكفن». اطمأن اوباما ومعه العديد من الزعماء الاوروبيين ما عدا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ان هذه الحرب ستبقى داخلية بعيدة عن حدودهم. لم يأخذوا بالمعادلة الطبيعية ان اي حرب داخلية ممزوجة بالإرهاب لا بد ان تنتج ارهاباً باتجاه الخارج. اليوم بلجيكا وأمس باريس وغداً من؟ الولايات المتحدة الاميركية؟ كل هذا مؤلم ومخيف ومحزن، لكن هذا هو الواقع. ما لم يتم اقتلاع اسباب هذا الارهاب فان القادم اعظم.
ما يعزز هذا الخوف، ان واشنطن عن قصد او عن قصر في الرؤية تعزز تعمق الارهاب في منطقة الشرق الاوسط. في فيلم «13 ساعة» وهو تقريباً تقرير وثائقي مدروس. تكون واشنطن على علم بالهجوم على القنصلية الاميركية في بنغازي يوم زيارة السفير الاميركي لها. وقد ابلغت «نقطة» المخابرات المركزية بذلك قبل ست ساعات من الهجوم. طوال 13 ساعة وهي مدة المعركة التي هاجم فيها ليبيون ينتمون الى «داعش» او غيره، يطلب المدافعون طائرات لقصف المهاجمين او حتى لإخافتهم. تصم واشنطن وكل القواعد القريبة اذنيها عن دعوات النجدة، فيقتل السفير وعدد من عناصر المخابرات المركزية. السؤال: لماذا تركت واشنطن سفيرها وجنودها لمصيرهم؟ هل ارادت الانسحاب بدعوى عدم الرغبة بالحرب؟ وماذا عن الحاضر حيث تحولت ليبيا الى خزان بشري للارهاب من جهة ومن جهة اخرى لمئات الآلاف من الطامحين لعبور البحر المتوسط الى اوروبا؟ هل ترغب واشنطن في إغراق اوروبا باللاجئين الذين من بينهم المئات، من «الداعشيين» او المعدين للتحول الى «داعشيين»؟
الرئيس باراك اوباما يؤكد وهو يستعد لمغادرة البيت الأبيض خلال الأشهر القادمة: ان «هزيمة داعش تشكل أولوية قصوى». لا يقول أوباما كيف. على العالم انتظار الجواب للعام 2017