IMLebanon

مَن مِنكم لا يعرف قصة مايكل بيري؟

يتمّ التعاطي مع التحذيرات التي يتم اطلاقها من وقت الى آخر، حول خطورة الوضع المالي والاقتصادي، وكأنها غير موجودة. هذا الاهمال المتعمّد يستند الى ثقافة الغباء المزمن في مقاربة ملفات الشأن العام، بالاضافة طبعا الى ثقافة الاستخفاف بعقول ومصير البلد والناس…

هناك حتى اليوم من يسأل ببراءة أو خبث: هل ان الوضع المالي في البلد وصل فعلا الى مرحلة متقدمة من المخاطر، بحيث ان الانهيار أصبح وشيكاً، ام ان كل ما يُقال لا يعدو كونه حلقة من حلقات الاستغلال السياسي للمشاعر، للافادة من خوف المواطن على وضعه المعيشي والاقتصادي.

هناك فئة أخرى من المشككين، لا تزال تتسلّح بمقولة ان لبنان في زمن الحروب صمد مالياً واقتصادياً، فلماذا قد ينهار اليوم؟

آخرون يسألون: هل أن من يحذّر لديه رؤية ومعلومات أفضل من كل الجهات المالية والمصرفية والنقدية في البلد، لكي يسمح لنفسه بهذا النوع من «فلسفة» الانهيار الوشيك؟

بالنسبة الى الاستغلال السياسي لخوف الناس، فهو وضع قائم والاستغلال يشمل كل مفاصل الحياة اليومية للمواطن، لكن الواقع ان الوضع المالي للدولة صار في مرحلة خطرة جدا، سواء أدرك من يستغل هذا الخطر سياسياً ام لا.

أما مقولة الصمود في الحرب فهي مردودة، لأن اللبناني لا يزال يتذكّر ان عملته انهارت في مطلع التسعينيات، وصار الحد الأدنى للأجور يساوي حوالي 20 دولارا. بينما يبلغ الحد الادنى اليوم حوالي 450 دولارا. واذا تكرر المشهد اليوم، على سبيل المثال، فهذا هو الانهيار الذي يخشاه من يرى الوضع على حقيقته حالياً.

في الشق الثالث من التساؤلات، والمتعلق بقدرة الأجهزة المالية المختصة على استشعار الخطر قبل حصوله، لا بد من الاستعانة بقصة مايكل بيري، ولو انها صارت قصة معروفة للكثيرين، الا ان سردها بشمولية لا يزال يشكّل مصدر ايحاء على المستوى المالي والاقتصادي.

مايكل بيري مواطن أميركي، «عشق» القطاع المالي والاقتصادي، لكنه درس الطب وتخرّج طبيبا ليبدأ العمل في مستشفى ستانفورد. لكن عشقه للحبيب الاول، ظل طاغيا، وسيطر عليه بحيث انه كان يتابع التطورات المالية لفترات طويلة في الليل او النهار عندما يكون خارج دوام عمله كطبيب متدرّب. هذا الشغف دفع ثمنه في غرفة العمليات، عندما وقع من الاعياء وكاد يتسبب بكارثة، انتهت الى طرده من غرفة العمليات.

بعد هذه الحادثة، قرر بيري التفرّغ لشغفه المالي. وبسرعة جذبت خيارات بيري الاستثمارية انتباه شركات عالمية تعمل في المجال المالي والاستثماري. وفي العام 2000، أسس بيري شركته الاستثمارية الخاصة Scion Capital، بأموال متواضعة من العائلة وبعض القروض.

حقق بيري نجاحات سريعة في جلب الارباح للمستثمرين معه. وفي العام 2011، عندما تراجعت اعمال “S & P 500” بنسبة 11.88%، ارتفعت أعمال شركة Scion Capital بنسبة 55%. بعد اربع سنوات، في العام 2004 كان بيري يدير ثروات بلغ مجموعها 600 مليون دولار.

في العام 2005، بدأ بيري يهتم بالاستثمار في الرهن العقاري الذي كان في عزّه في الولايات المتحدة. وبعد دراسته للسوق، استنتج بيري ان السوق العقاري المرتبط بالسوق المالي والاستثماري يمضي نحو الانهيار. حاول تنبيه السلطات المالية المختصة الى هذا الخطر، لكنه كان أصغر من ان يلفت انتباه «الكبار» الذين كانوا يهتمون بهذا الملف.

بعد يأسه من امكان حث المسؤولين على اتخاذ خطوات انقاذية، قرر الافادة من رؤيته في الاستثمارات التي يقودها. وتحدث الى المستثمرين في صندوقه، وأقنع بعضهم بعد جهد بالاستثمار في الاتجاه المعاكس للسوق.

ففي تلك الحقبة كان شراء منتج مالي مستند الى الرهن العقاري، يعتبر استثمارا رابحا، ويمكن بيعه مع تحقيق نسبة من الارباح. لكن بيري أقنع المستثمرين معه ببيع لهذا المنتج، واعادة الشراء في الفصل الثالث من 2007، وهو الموعد الذي حدده بيري مسبقاً لبدء الانهيار!

فاجأ بيري مصرف «غولدمان ساكس» باقتراح هذا النوع من المنتج. طبعا وافق البنك على «خلق» المنتج الاستثماري لبيري ولو ان المسؤولين فيه اعتبروا ان بيري مغفل، ويستثمر في الاتجاه الخاسر.

وعندما وقعت ازمة الانهيار بتأخير بضعة اشهر فقط عن الموعد الذي حدده بيري قبل حوالي السنتين من وقوعه، جنى بيري لنفسه وللمستثمرين معه أرباحا طائلة، في وقت كانت المصارف الاستثمارية تنهار بدءا بمصرف «ليمان برازيرس» (Lehman Brothers) الذي شكل انهياره، وهو المصرف الاستثماري العريق الذي تأسس في العام 1850، صدمة للأميركيين لم يتجاوزوها حتى اليوم. وقد جنى بيري للمستثمرين لديه ارباحا بلغت قيمتها حوالي 700 مليون دولار، وحقق لنفسه ارباحا بقيمة 100 مليون دولار.

تحول مايكل بيري الى اسطورة مالية ارتبط اسمه بالانهيار الذي هزّ اميركا في العام 2008، ونشر الركود في كل اقتصاديات العالم، وتداعياته لا تزال قائمة حتى اليوم. واستحق بيري فيلماً رأى النور في العام 2015.

وعندما سئل الرجل عن سره، وكيف عرف بما سيحصل في حين غفل الجميع تقريباً عن هذا الخطر أجاب: لا أعرف من كان يعرف ومن كان لا يعرف، لكنني استطيع ان اؤكد ان اي متابع للوضع المالي، منح نفسه الوقت في تلك الحقبة لدراسة ما يجري فعلاً في السوق، كان سيعرف حتما ان الامور تتجه نحو الانهيار.

هل في مقدور اللبنانيين اليوم، أن يجزموا بأن ما يسمعوه من إنذارات في شأن الوضع المالي في لبنان، لا تشبه ما سمعه المسؤولون الاميركيون من بيري قبل حوالي السنتين من وقوع الانهيار؟