من الطبيعي ان تتعدد القراءات والاستنتاجات والدوافع للحروب الكونية الدائرة في المحيط الاقليمي القريب منه والبعيد.. لكن ما حصل في بلدة القاع، فجر وليل الاثنين، محكوم بسقف معين لا يمكن خرقه، وهذه البلدة، ذات الغالبية المسيحية وعلى تماس مباشر مع الحدود السورية، دفعت ثمناً من أرواح أبنائها، لا مبرر له، وهي التي نأت بنفسها عن سائر الاصطفافات ووقفت الى جانب المؤسسة العسكرية، التي كانت، ولاتزال على قناعة بأن الوضع الأمني في المنطقة »ممسوك ومتماسك«؟!
الحراك الارهابي باتجاه لبنان »أمر واقع« بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، ووزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، كانت، ولاتزال لديه الشجاعة الكافية ليكشف عن انجازات بالغة الأهمية في مواجهة هذه الخلايا الارهابية، واقتلاع العديد منها، من قبل ان تتمكن من تنفيذ المهمات المطلوبة منها..؟!
لقد كان فجر 27 – 28 حزيران حدثاً مروعاً بكل ما لهذه الكلمة من معني، وهو يضع الدولة اللبنانية، وسائر الافرقاء اللبنانيين، على اختلاف وتنوع مواقفهم والتزاماتهم وتموضعاتهم الداخلية والمحورية الاقليمية أمام مسؤولية تاريخية.. فما حصل، لم يكن »مفرقعات« في أحد الأعراس، ولم يكن اطلاق نار فرحاً في استقبال هذا الزعيم او ذاك.. بل كان رسالة بالغة الخطورة، خلاصتها ان لبنان، عاد ليكون في صلب أهداف الحركات الارهابية، ولا تمييز في هذا بين فريق وآخر..
من المبالغة في »المثالية« تصوير ما حصل في القاع، على أنه مجرد رد فعل على مواقف معينة لأي من الافرقاء اللبنانيين.. والمعلومات الاستخباراتية دلت على ان من صلب أهداف هذه الجماعات الارهابية، إقامة »منطقة آمنة« داخل الأراضي اللبنانية تكون معبراً لربط الداخل السوري بالبحر الابيض المتوسط.. وهذه مسألة لم تحصل لأسباب عديدة..
ليس من شك في ان موقع بلدة القاع، لعب دوراً أساسياً في ان تكون هدفاً.. والبلدة تحتضن أكبر مخيمات النازحين السوريين، وأراضيها صالحة للاستخدام الزراعي.. وعلى خلفية المعلومات التي ترددت عن ان الارهابيين عززوا حضورهم داخل هذا المخيم، وعلى ضوء معلومات أخرى، عزز الجيش اللبناني من انتشاره في المنطقة، ومع ذلك، لم تكن هذه التعزيزات كافية لاجتثاث البؤر الارهابية من جذورها.
الواضح ان الجيش رفع من مستوى جهوزيته ٢٤-٢٤، لكن الامكانات المتوافرة لديه غير كافية لسد كامل الثغرات، لاسيما وان المعلومات تؤكد تغلغل الارهابيين في أكثر من منطقة، وهي باتت على استعداد لتنفيذ ما يطلب منها.. من متابعة مجريات الاحداث على نطاق واسع، يتبين ان السلاح يتدفق الى المنطقة على نحو غير مسبوق، وقد فاق التصور، ولا يقتصر الأمر على السلاح الفردي (بندقية ومسدس وآر بي جي) بل تجاوز ذلك لأرقى أنواع الأسلحة.. فصارت المجموعات الارهابية تمتلك أرقى أنواع الصواريخ، والتي لا تمتلكها الجيوش النظامية، وهي صواريخ مضادة للدروع وأخرى صواريخ أرض -زرض وأرض – جو.. وهذه مسألة اثارت مخاوف وقلق لدى العديد من الدول.
في شهر تشرين الأول نشرت معلومات بالغة الدقة والخطورة تتحدث عن ان التحديات الأمنية في الشرق الاوسط (تحديداً) ومع تنامي نفوذ »داعش« و»النصرة« والقلق المتزايد من دور روسيا في المنطقة، انعشت مبيعات السلاح الاميركي التي سجلت رقماً قياسياً في العام ٢٠١٥، غير مسبوق في أي سنة من السنوات الماضية، ووصلت الى حدود الــ٤٧ بليون دولار..
وقد نقلت نشرة »ديفينس وان« عن وزارة الدفاع الاميركية ان مبيعات السلاح الى الخارج »ارتفعت الى رقم غير مسبوق« في العام ٢٠١٥، بسبب الحرب ضد تنظيم »داعش«.. وأزمات مشتعلة من سوريا الى العراق الى اليمن وليبيا؟!
وكشف مدير وكالة التعاون الدفاعي الاميرال جوزف ريكسي ان العام ٢٠١٥ »هو الأكبر في تاريخ الوكالة«. بمبيعات تخطت الـ٤٦ بليون دولار، فيما كان هذا الرقم ٢٧.٨ بليون دولار في العام ٢٠١٣..
في الخلاصة، لقد دفعت القاع ثمناً باهظاً عن كل اللبنانيين، وسواء كانت هي المستهدفة مباشرة، أم ان الانتحاريين الذين يختبئون في بساتينها، كانوا ينتظرون أحداً او سيارة تنقلهم الى مكان آخر« على ما قال رئيس »القوات« سمير جعجع، فإن الوقائع تدل على »المستهدف الحقيقي هو لبنان والمؤسسة العسكرية في القاع كما والبقاع..« على نحو ما عاد جعجع وصحح الموقف.
قد يكون من المبالغة القول ان حصول مواجهة مباشرة كافية لحسم المسألة لصالح الجيش اللبناني خلال ساعات او حتى أسابيع.. و»حروب العصابات« على ما دلت الوقائع التاريخية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، خصوصاً وان لبنان، او الدولة اللبنانية، كما سائر الافرقاء اللبنانيين لم يحسموا خياراتهم بعد ويحددوا من أين البدء؟! ولبنان الدولة، باتت النموذج الحي الساطع على تفكك الدولة ومؤسساتها، التي تبقى فيها المؤسسة العسكرية، وسائر المؤسسات الأمنية، تتمتع بالحد الأدنى المطلوب من الوحدة والتماسك.. ولو من غير الدعم الجدي المطلوب ليكون الجيش مؤهلاً لخوض معاركه في مواجهة الارهابيين، والتي قد تطول أكثر مما يتصور البعض.. هذا مع الاشارة، الى ان »الارهابيين« قد يكونون على قناعة بأن الامساك بزمام هذه البلدة ذات الغالبية المسيحية أمر سهل ويوفر لهم فرصة الافادة القصوى منها لتحصين مواقعهم في هذه »الخاصرة الرخوة..« على ما يرى البعض..