في الأيام الأولى من عهد الرئيس دونالد ترامب ضجّ العالم ببيانات التأييد الصادرة من موسكو وحلفائها في دمشق وصولاً الى اعتقادهم أنه بات لديهم صديق في البيت الأبيض سلّم لهم بدور الآمر الناهي في سوريا. ولكنّ الأمر لم يطل، فجاءت تجربةُ «خان شيخون» ليظهر وجهٌ آخر لترامب، ربما الحقيقي. وهو ما طرح السؤال: مَن غدر بمَن ترامب أم بوتين؟ وهل تصحّ نظريةُ المؤامرة؟
على وقع التشكيك بنتائج الإنتخابات الأميركية التي أوصلت ترامب الى البيت الأبيض، والإتهامات التي تحدثت عن التدخل الروسي فيها لمصلحته وصولاً الى اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً بتورّطه في العملية، دخل ترامب مكتبه البيضاوي على وقع «غزل» غير طبيعي بينه وموسكو ترجمه حليفه الرئيس السوري بشار الأسد بتأكيد استعداده للتعاون مع الإدارة الأميركية الجديدة لمكافحة الإرهاب.
ولم يكتفِ النظام بذلك، فشاركه حلفاؤه على الساحة السورية بالتباهي بالموقف الأميركي في مواجهة الإرهاب على أنه تأييدٌ للنظام السوري في معركته لإستعادة ما فقده على أرضه. وبنى سلسلةً من الأحلام توصّل البعض الى فهمها على أنّ ما يحصل هو انقلاب أميركي كبير قد يُفضي الى تأييد جميع القوى المسلحة التي تساند النظام بما فيها وحدات «حزب الله» والميليشيات الأخرى التي جمعت من أفغانستان وإيران وباكستان والعراق تحت شعار «مواجهة الإرهاب».
وما رفع من منسوب تفاؤل النظام تمثّل في ردة فعله على موقف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الذي أكد قبل اسبوعين تقريباً أنّ أولوية بلاده «القضاء على الإرهاب» وقوله ما معناه إنّ «السوريين هم مَن يقررون مصير النظام في بلادهم»، فارتفعت موجات التفاؤل الى أن وقعت مجزرة «خان شيخون» فكانت لحظة الإنقلابات الكبيرة وجاءت الضربة الصاروخية لمطار الشعيرات العسكري لتبدّد هذا التفاؤل وتتبدّل المواقف رأساً على عقب وصولاً الى المطالبة برأس النظام ثمناً لإستخدام الأسلحة الكيماوية في ريف إدلب.
عند هذه النقطة بالذات، تصاعدت حدة الخلافات بين موسكو وواشنطن، ونَسِي الأميركيون أنفسهم الإتهامات التي وُجهت الى ترامب وإدارته بالتعاون السرّي مع موسكو، فتلاحقت المواقف الأميركية التصعيدية الي حمّلت موسكو أكثر من غيرها من حلفائها المتورطين في الأزمة السورية مسؤولية ما جرى ومعها طهران في اعتبارهما المسؤولتين تجاه العالم منذ اتفاقات وقف النار عشية مؤتمر «أستانة 1» عن ضبط النظام ومعاونيه وضمان التزامه وقف النار الشامل، ومنعه من خرق اتفاقات الهدنة المعلنة وغير المعلنة والمماطلة في كبح جماحه وإفراطه في إستخدام القوة ضد المدنيين، مثلما جرى في «خان شيخون» كما وصل به الأمر الى إستخدام الأسلحة غير التقليدية المحظورة دولياً بدعم موسكو وطهران المباشر.
وعند هذه التطورات تحدثت معلومات واردة من واشنطن عن سوء فهم روسي وسوري وإيراني للموقف الأميركي مما يجرى في سوريا. فانتقاد الإدارة الجديدة لسياسات سلفه باراك أوباما لا يعني الإستسلام أمام موسكو وتسليمها الدفة في الأزمة السورية من دون أيّ منازع أو شريك.
ونقلت تقارير عن ديبلوماسي أميركي كبير قوله «إنّ واشنطن لم تعطِ الإذن يوماً ولم تطلق يد بوتين يوماً في سوريا، وإنّ على النظام أن يفهم موقف الإدارة الأميركية منذ أحداث منبج وإصرارها على منع تقدم الجيش السوري في اتجاه مناطق «داعش» في الرقة وإدلب وغيرهما من المناطق وسعيها الى تسليم «المناطق المحرَّرة» الى قيادات ومنظمات سورية محلية بعدما قدّمت تجربة «مجلس إدارة منبج» نموذجاً لحكم المناطق الشبيهة بها كما يجرى اليوم لتشكيل «مجلس لإدارة الرقة» بهدف منع النظام وحلفائه الإيرانيين من التوسّع في اتجاه مناطق «داعش» الشمالية والمنطقة التي سيطرت عليها تركيا مع احترام خصوصيات هذه المناطق إثنياً ومذهبياً وإمكان استخدامها مناطق آمنة لإعادة السوريين المشرَّدين في دول الجوار السوري اليها».
وأضاف هذا الديبلوماسي المكلّف ملف المنطقة: «كان على موسكو والنظام السوري وطهران أن يفهموا جميعاً أنه لن تكون أيّ منطقة محرَّرة في شمال البلاد في يد الإيرانيين أو السوريين أو أيّ من حلفائهم ليس منعاً لأيّ صدام سوري أو إيراني ـ تركي كان وشيكاً فحسب، بل لأنّ الإدارة الأميركية لم تسلّم بعد بديمومة النظام السوري وإزداد إصرارها على منع أيّ تقدّم له في تلك المناطق بعد عملية «خان شيخون» نتيجة خرقه كل التفاهمات التي بُنيت منذ صيف 2015 بعد استعمال النظام السلاح الكيماوي في الغوطة الغربية لدمشق في 19 آب من ذلك العام والذي حال الروس دون معاقبته عليه بالتفاهم على تفكيك الأسلحة الكيماوية والتخلّي عن برامج مماثلة».
وعليه، يضيف الديبلوماسي، «أنّ أولوية واشنطن القضاء على الإرهاب في سوريا لا تعني أنّ النظام سيكون في منأى عن المحاسبة، وأنّ البحث في مصيره سيكون الخطوة التالية أو الحلقة الثانية من مسلسل الحل الأميركي للأزمة السورية التي تتزامن وبرنامج آخر لترحيل كل الميليشيات غير السورية خارج أراضيها أيّاً كانت النتائج المترتبة على هذا الحل.
وعليه لا يمكن فهم ما يجرى أو ربطه بمقولة: «مَن غدر بمَن ترامب أم بوتين؟ فلا وجود لنظرية المؤامرة في العلاقات ما بين الدول الكبرى. فالرجلان يعرفان حدود اللعبة وأنّ عودة الأميركيين بقوة بعد «عملية الشعيرات» الى الساحة السورية ليست من باب رفض التسليم بالدور الروسي الأحادي فحسب، بل للبحث جدّياً في مستقبل سوريا وتوزيع الأدوار ومعها المغانم وفق رؤية مشتركة تكون فيها المعارضة السورية قد وحّدت قواها وانتظمت في هيئة جديدة يجرى البحث في تركيبتها السياسية والعسكرية والديبلوماسية مع رئيس الوفد السوري المفاوض باسم المعارضة رئيس الحكومة السورية المنشق رياض حجاب الذي زار واشنطن قبل أيام والتقى المسؤولين الكبار في إدارة ترامب ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي.
ولذلك كله، تدعو التقارير الورادة من واشنطن الى مزيد من الصبر في انتظار استكمال الإستعدادات للقضاء على «داعش» وحلفائها في سوريا وهي عملية لن تبدأ قبل تركيب السلطة البديلة منها من «المعارضة المعتدلة».
والى تلك المرحلة والإنتهاء من تركيبة الوفد المعارض التي توفر التوازن المطلوب بين طرفي النزاع ستكون العودة الى جنيف أسهل. والى تلك المرحلة ستبقى الأوضاع على ما هي من التردّد وعدم الحسم في أيّ معركة لمصلحة أيّ فريق الى أن تظهر نتائج التفاهمات الروسية ـ الأميركية النهائية.