يبدو مثيراً التناقض: إدارة أوباما تواصل ضرب «داعش» في سوريا تحت عنوان تصفيتها. لكنّ «داعش» مستمرة، وستودِّع عهد أوباما، وكثير من الخبراء يسأل: هل سيكون لإرهاب «داعش» دور في اختيار الخلف: كلينتون أم ترامب؟ أي هل ستكون «داعش» ناخباً رئاسياً في الولايات المتحدة؟
مع انطلاق موجة الإرهاب الأخيرة، تساهم «داعش» في صناعة مزاج أوروبي وأميركي جديد، ربما يقود إلى تحوّلات عالمية جذرية، هي الأولى من نوعها منذ انهيار المجموعة الاشتراكية في مطلع التسعينات من القرن الفائت وتَفكُّك دولها السابقة ونشوء كيانات جديدة على أسس قومية ودينية.
في الشكل، تبدو الموجة الحالية من الإرهاب العالمي، الذي أُعطي الطابع الإسلامي التكفيري، شبيهة بموجة الإرهاب العالمي التي أدارها اليسار الدولي في الستينات والسبعينات من القرن الفائت، والتي كانت تدعمها موسكو.
ولكن، في المضمون، هناك فوارق وتناقضات شاسعة:
-1 كان إرهاب اليسار، القرن الفائت (بادر- ماينهوف، كارلوس…) جزءاً من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وقد حصل تقاطع بين هؤلاء والمناضلين في سبيل بعض قضايا التحرّر العادلة، كقضية فلسطين. فجرى الردّ بـ»الإرهاب الفدائي» على «إرهاب الدولة» الإسرائيلي.
-2 لم ينطلق إرهاب اليساريين من حروب أهلية في دولٍ تتفكّك، كما هو حال الإرهاب الحالي الذي أعطيَ الطابع الإسلامي.
-3 على رغم الفظاعات التي ارتكبها إرهاب اليساريين، فإنه لم يبلغ سوى جزء صغير من فظاعات «القاعدة» و»داعش» والجماعات الإسلامية
الرديفة، ما يؤشّر إلى أنّ ما يراد من «الإرهاب التكفيري» هو إعطاء صورة سوداء عن الدين الإسلامي والإيحاء بأنّ التعايش السلمي بين المسلمين وأبناء ديانات أخرى مستحيل.
لكنّ إرهاب اليسار يتقاطع مع الإرهاب التكفيري في أنهما معاً يتلقيان دعماً من قوى إقليمية ودولية بهدف بلوغ غايات معينة، أي أنهما أدوات في الصراعات الكبرى.
فإرهاب اليسار انتهى مع انتهاء الحرب الباردة، أمّا الإرهاب التكفيري الذي وُلِد مع «القاعدة» وأعلن عن نفسه بقوة في 11 أيلول 2000، قبل أن يتناسل بـ»داعش» و»النصرة» وسواهما، فهو سينتهي مع انتهاء الحاجة إلى دوره.
بعد انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ظهرت تحوّلات استراتيجية دولية، أبرزها سقوط المعسكر الاشتراكي.
وعلى الأرجح، ستنجلي تحوّلات دولية جديدة بعد انتهاء دور «داعش»:
-1 تفكُّك كيانات في الشرق الأوسط والعالم العربي واستثمار إسرائيل لهذا الواقع.
-2 إرساء صورة سلبية عن الإسلام كدين، وخلق علاقة صدامية بين العرب والمسلمين من جهة، والمسيحيين في الغرب من جهة أخرى.
-3 ولادة مجتمعات غربية شبه معادية للعرب والمسلمين.
اليوم، يقدّم إرهاب «داعش» ذريعة للقائلين بالنظرية التي نادى بها صموئيل هانتغتون عام 1993، أي «صراع الحضارات». وهو يقود إلى إعادة نظر في المفهوم الغربي لحقوق الإنسان والمواطن. فالدول الأوروبية ستميل إلى إعادة النظر في تشريعاتها للحدّ من تدفّق اللاجئين، وستراجع حساباتها في التعاطي مع العرب والمسلمين الوافدين في مجالات العمل والإقامة والجنسية.
والأهم هو الأثر الذي سيتركه إرهاب «داعش» على الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة. ففي بريطانيا، كان الإرهاب أساسياً في التحريض على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وسائر الدول الأوروبية يحتفل اليمين المتطرّف بتسجيل النقاط:
الألمان يستعدون لانتخاباتهم المحلية في أيلول بتعاطف أكبر مع حزب «البديل» المتطرّف. وفي فرنسا يراهن اليمين المتطرّف على وزن في الانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل.
أما في الولايات المتحدة فمن المؤكد أنّ إرهاب «داعش» سيكون عاملاً فاعلاً في ترجيح الخيار الرئاسي بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب. فمزيد من الأعمال الإرهابية في أوروبا يمكن أن يزيد من أسهم ترامب. ولكن، إذا نفّذت «داعش» عمليات في الولايات المتحدة، في الفترة الفاصلة عن 4 تشرين الثاني، فسيكون التأثير مباشراً على مجريات المعركة الانتخابية هناك.
وقبل أسبوع، أعلن ترامب أنّ كلينتون أدّت دوراً في تسليم العراق وليبيا لـ»داعش»، وفي إطاحة نظام الرئيس حسني مبارك وتمهيد الطريق لـ»الإخوان المسلمين» في مصر، وأنها تلقّت أموالاً من دول إسلامية لذلك.
ويبدو أنّ هناك دوراً مُهماً يُراد أن تضطلع به «داعش» خارج أرض المنشأ، أي الشرق الأوسط. ففي سوريا والعراق ولبنان وليبيا وسواها تلتزم «داعش» دوراً في تفجير الكيانات القائمة وتحويل الصراع القومي الدائر في المنطقة بين العرب وكل من إسرائيل وإيران وتركيا حروباً أهلية على أسس مذهبية وطائفية وقومية.
لكنّ «داعش» تأخذ على عاتقها أيضاً «تغيير العالم». فمن المؤكد أنّ التداعيات الناتجة عن العمليات الإرهابية العالمية ستكون عميقة الأثر في المجتمعات العالمية، ولا سيما في الغرب، حيث ستجرى مراجعات جذرية لكلّ مفاهيم حقوق الإنسان والمواطن بناء على أسس جديدة.
وفي المفهوم الحضاري، سيشكّل ذلك نقلة إلى الوراء في المجتمعات الغربية التي ذهبت بعيداً في التركيز على حقوق الإنسان والمواطن، لكنّ المراجعة ستبدو اضطرارية.
إذاً، العقل الذي صنع «الإرهاب الإسلامي التكفيري»، ويديره، من «القاعدة» و11 أيلول إلى «داعش» وهجماتها الأوروبية، يريد بلوغ تحوّلات كبرى في الشرق الأوسط والعالم، وما سمّي «الربيع العربي»- المفاجئ- كان فصلاً من فصولها.
واليوم، «داعش» وأخواتها في وسط المعركة. لكنّ التجليات بدأت تلوح. وعندما تنتهي المعركة سيولد شرق أوسط جديد، ومفهوم جديد للعلاقات بين العرب والمسلمين من جهة و»الآخرين» من جهة أخرى، تماماً كما أدى إرهاب اليسار الدولي في النصف الثاني من القرن الفائت إلى ولادة تحوّلات جديدة.
البعض يعتقد أنّ الولايات المتحدة وقوى في أوروبا والشرق الأوسط ساهمت في ولادة الإرهاب الإسلامي التكفيري، أو وافقت عليها، لغايات معينة. ولكن، ليس واضحاً اليوم مَن يتحكَّم بالآخر فعلياً: واشنطن أم «داعش»؟
وبعدما دفع الأميركيون ثمناً غالياً في 11 أيلول، يدفع كثيرون في الشرق الأوسط والعالم الثمن أيضاً. فمارد الإرهاب الإسلامي التكفيري الذي خرج من القمقم سيقدم خدماته لأسياد آخرين، وهو لن يعود إلى القمقم إلا عندما يطلب منه هؤلاء الأسياد ان يفعل!
مَن هم هؤلاء الأسياد، وماذا يريدون؟ هذا هو السؤال الحقيقي المطروح في مسألة «داعش» والإرهاب الإسلامي التكفيري!