تحتاج الملفّات الجدّية التي يستلزم حسمها في خلوات الحوار، أي «السلّة المتكاملة»، لا إلى ثلاثة أيام، بل إلى ثلاثة أشهر أو ثلاث سنوات. وستقتصر «إنتاجية» الحوار الموعود على بضع ملفات على هامش الأزمة. ولكن، هل في استطاعة القوى المسيحية أن تجعل من مناسبة الحوار فرصة مؤكّدة لانتخاب رئيس للجمهورية؟
في اعتقاد بعض المتابعين، أنّ المدخل إلى تحقيق إنجاز في ملف الرئاسة خلال الحوار هو اقتناع العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية بأنّهما ليسا مرشّحين حقيقيين لرئاسة الجمهورية، وبأنّ كلّ القوى التي سمَّتهما – بلا استثناء- فعلت ذلك من باب التكتيك السياسي، وأنّ بعضها لا يريد من هذه التسمية سوى تعطيل الانتخابات.
فعندما أعلنَ «حزب الله» دعم عون، ومعه مسيحيّو 8 آذار، كان يدرك أنّ وصوله مستحيل بسبب رفضِ 14 آذار. وعندما بدأ الرئيس سعد الحريري يراجع حساباته -تكتيكياً على الأرجح- في ملف الرئاسة، عمد فرنجية إلى سحب دعمِه لعون وتشبَّث بترشيح نفسه.
وعندما أعلنَت «القوات اللبنانية»- تكتيكياً على الأرجح- دعمَها عون، بدأت تلوح انشقاقات- تكتيكية أيضاً- في داخل «المستقبل»، ضد ترشيح عون. وهكذا، بقي مستحيلاً انتخاب أحد الرَجلين، وهذا هو المطلوب لدى البعض. كما بقي مستحيلاً انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا هو المطلوب لدى البعض الآخر.
في العمق، الجميع، من «حزب الله» إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى «المستقبل» وسواهم، لا يريدون عون رئيساً. وليس مضموناً أنّ فرنجية يَحظى أيضاً بدعم «المستقبل» والقوى العربية الداعمة له… إلّا إذا كانت هذه القوى قد اقتنَعت بتسليم الرئاسة في لبنان إلى الحليف الأشدّ حميمية للرئيس السوري بشّار الأسد. فليس وارداً على الإطلاق خروج فرنجية من هذا التموضع، خصوصاً أنّ الأسد باقٍ على سوريا أو غالبيتها حتى إشعار آخر.
إذاً، القطبان المارونيان المرشّحان للرئاسة، من 14 آذار، الرئيس أمين الجميّل والدكتور سمير جعجع، يبدوان اليوم وكأنّهما خارج المعركة. الأوّل بعدم حصول دعم له والثاني بانسحابه لعون. وهذا صحيح. لكنّ المؤكد أنّ المرشحين الآخرين، عون وفرنجية، هما أيضاً خارج المعركة واقعياً. وحظوظ الأقطاب المسيحيين الأربعة متساوية… عند نقطة الصفر!
في المطلق، ربّما يكون فرنجية هو الأوفر حظاً لدى «حزب الله» لأنّه جزء أصيل من حلف «المقاومة والممانعة»، لكنّ إيصاله يقتضي أن يقتنع هذا الحلف بأنّ التوقيت قد حان لإنهاء الفراغ الرئاسي، وهذا الأمر لا يبدو وارداً قبل تبلوُر الصفقات الإقليمية التي يجري التحضير لها في سوريا والعراق، والتي يراد للبنان أن يكون فيها جزءاً من المقايضة.
يبدو ترشيح «حزب الله» لعون شبيهاً بشيك قيمتُه مليار دولار، لكنّه بلا رصيد، وسيَبقى بلا رصيد. وكذلك كان دعم 14 آذار للقطبَين المارونيَين في هذا الفريق. وأمّا بالنسبة إلى فرنجية، فقد يقرِّر «حزب الله» أن يدفعَ الحساب اللازم في البنك ليصبح الشيك قابلاً للصرف، إذا جاءت اللحظة المناسبة.
وحتى ذلك الوقت، لا خلوات الحوار ستُنجب رئيساً ولا المساومات الجانبية التي تحطّ من قيمة زعماء الموارنة ومن قيمة موقع الرئاسة، لأنّها تجعلهم حجرَ شطرنج يجري تحريكه في عالم الوهم، وفي أيدي بيّاعي الوهم.
هل هذا العجز الماروني هو مسألة قدَرية أم يمكن تغييره وكسر السحر؟
ربّما تكون القدَرية هي تحديداً وجود أقطاب موارنة لا تَسمح لهم طموحاتهم الفضفاضة برؤية الوقائع على حقيقتها، وتدفعهم إلى الغرق في البحث عن السلطة والنفوذ في أيِّ مكان ولدى أيٍّ كان. وهذا ما يجعلهم ويجعل الرئاسة والمواقع المسيحية رهينة المصالح الصغرى والكبرى.
وعلى رغم الإهانة التي يتعرّض لها الموقع الوطني الأول والمسيحي الأوّل، فإنّ المرشحين الموارنة لا يريدون تقديم أيّ تضحية شخصية بالتنازل والذهاب إلى اجتماع مسيحي عام، تتمثّل فيه كلّ القوى والفاعليات، وينتهي بتسمية مرشّح واحدٍ يتمتّع بالكفاية السياسية والأخلاقية، ويَحظى باحترام كلّ الفئات اللبنانية، بحيث لا يتجَرّأ أحد على مقاطعة جلسة انتخابه.
ولكن، مَن يوقظ الزعماءَ الموارنة ويقنع عون وفرنجية بالانسحاب مدخلاً للمعالجة؟
المثير أنّ هؤلاء الأقطاب لا يكفّون عن التباكي على الدور المسيحي المهدور، ويتّهمون الآخرين بسلبِ الحقوق، ولا يريدون البحث عن سبيل واقعي لتصحيح الخَلل الوطني. وإذا استمرّ هؤلاء على هذا المنوال – وهذا يبدو محسوماً- فإنّهم سيَستسلمون للمتعة برتبة المرشّح الوهمي الدائم لرئاسة ماتت، ولجمهورية لم تعُد قائمة إلّا في أوهامهم!