على الرغم من تجريد رئيس جمهورية لبنان في مؤتمر الطائف من كل صلاحياته الاجرائية السابقة… إلا أن المطالبة بضرورة إنتخابه تبقى في مقدم الأولويات.
رئيس الحكومة تمّام سلام هنأ الشعب بعيد الاستقلال، إلا أنه أكد في كلمته بأن الفرحة لن تكتمل إلا بانتخاب رئيس للجمهورية وعودة العسكريين المخطوفين. وهو من موقع المسؤولية لا يستطيع أن يتصور جمهورية من دون رئيس يمثل وحدة الوطن، ويحافظ على احترام الدستور ويضمن سلامة الاستقلال.
وبسبب هذا الشعور، يرى المواطنون أن الشلل الاداري قد تسلل الى كل المؤسسات والأجهزة الرسمية، وأن خلافات الوزراء ليست سوى إنعكاس طبيعي لغياب قاضي القضاة.
جماعة 14 آذار تتهم فريق 8 آذار بعرقلة مساعي النواب لأن “حزب الله” يرفض تكرار تجربة رئيس توافقي مثل ميشال سليمان. وحجّته أن الرئيس السابق دخل الى قصر بعبدا تحت شعار التوافق، ثم تحول تدريجياً الى رئيس لا يمثل كل شرائح المجتمع.
من هنا إصرار قيادة “حزب الله” على إختيار رئيس غير توافقي مثل ميشال عون، يمكن أن ينقل البلاد الى موقع أكثر صلابة وشفافية وتنظيماً.
وبما أن ايران تتصرف مع العراق وسوريا واليمن من موقع الدول التابعة لتوجيهاتها، فان علاقتها الوثيقة بـ “حزب الله” تعفيه من دور التبعية. والسبب أن السيد حسن نصرالله يرتبط مباشرة بمكتب المرشد الأعلى الامام علي خامنئي لأنه من معتنقي مرجعية ولاية الفقيه.
في ظل الارتباك الذي يعانيه نواب لبنان لحسم موضوع الرئاسة، تحولت عملية الاختيار في ايران الى مسألة سياسة داخلية بالغة الأهمية. وكان من الطبيعي أن تنعكس وجهات نظر المسؤولين على قرار إنتقاء شخصية صديقة تطمئن طهران الى تحالفها.
العسكريون، وفي طليعتهم قاسم سليماني قائد فيلق القدس، إضافة الى قادة الحرس الثوري، يؤيدون “حزب الله” في موقفه المعلن على لسان الأمين العام السيد حسن نصرالله. وقد أعربوا عن رغبتهم في إنتخاب العماد ميشال عون المدعوم من غالبية الشيعة، إضافة الى دعم الرئيس بشار الأسد ومساندة حلفائه في لبنان.
ولكن الفريق السياسي بقيادة الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، يفضل إختيار قائد الجيش جان قهوجي لمنصب الرئاسة، خصوصاً خلال هذه المرحلة الصعبة من تاريخ المنطقة.
وذكرت مصادر مطلعة في طهران أن إنتقادات السياسيين لميشال عون ساهمت في تأخير موعد الانتخاب. وقد وصفته بأنه شخص يتعذر ضبطه أو التنبؤ بانفعالاته وتحالفاته. وهي صفات يعتبرها أنصاره، مثل وزير الاتصالات السابق نقولا صحناوي، بأنها شهادة لمصلحته. أي أنه مستقل في سلوكه السياسي ويتمتع بهامش واسع من حرية الرأي.
بيدَ أن الفريق السياسي الايراني المعارض لاختيار العماد عون، يذكّر بأحداث أيلول 1988، يوم تولى عون رئاسة الحكومة الانتقالية في عهد الرئيس أمين الجميل. وقد ساعده في حينه على إتخاذ تلك الخطوة الدكتور سمير جعجع. وفي المقابل تشكلت حكومة أمر واقع برئاسة سليم الحص تشرف على المناطق الخاضعة للنفوذ السوري.
وانقسمت الدول العربية في تعاطيها مع الحكومتين، بحيث أن سوريا قاطعت حكومة عون ودعمت حكومة الحص. أما العراق فقد قاطع حكومة الحص، وساند حكومة عون.
واستناداً الى هذه الخلفية، ترى حكومة روحاني أن ماضي ميشال عون يؤكد تعاونه مع صدام حسين الذي حارب ايران بكل الوسائل المتاحة. والثابت أن عون تلقى في حينه حزمة صواريخ كهدية لاستخدامها ضد دمشق.
لهذه الأسباب وسواها تردد في طهران أن السياسيين يميلون الى تزكية قائد الجيش جان قهوجي لمنصب الرئاسة. خصوصاً أنه يتولى قيادة جيش مؤلف من خمسين ألف جندي.
صحيح أن “حزب الله” لديه من العناصر المدربة أكثر من هذا العدد، الأمر الذي يؤهله للقيام بدور الجيش النظامي… ولكن الصحيح أيضاً أن المسيحيين والسنّة والدروز سيقاومونه في حال توليه هذه المهمة. بينما ترضى كل الطوائف بسلطة الجيش النظامي الذي يضم جنوداً من كل المناطق وكل المذاهب. وبسبب الهبة السعودية، سيضطر جان قهوجي الى تجنيد عدد إضافي قادر على إستيعاب الأسلحة المتطورة. وربما تُلزمه الحاجة الى ضخ دم جديد في الجسم العسكري المترهل، والى إحياء قانون التجنيد الاجباري الذي ألغاه الرئيس اميل لحود.
ولكن، هل يرضى اللبنانيون بعودة عسكري الى الحكم، بعدما خبِر الجيل السابق تجاوزات المكتب الثاني التابع لسلطة اللواء فؤاد شهاب؟!
وهل يطمئن النواب الى رئيس عسكري مثل اميل لحود، أمضى تسع سنوات من عهده في الاعتراض على مقررات حكومة رفيق الحريري؟!
وهل تقبل جماعة 14 آذار بانتخاب قهوجي بعدما إتهمته بالانحياز الى “حزب الله”، والانفتاح على نظام الرئيس بشار الأسد؟!
ولدى هذه الجماعة أدلة كثيرة على تعاونه المنحاز الى الحزب بغرض كسب أصوات نوابه والنواب المؤيدين لخطه السياسي.
ومن أبرز تلك الأدلة الأوامر التي أصدرها للجنود بضرورة إعتقال آلاف المقاتلين السنّة الذين يحاربون على الجبهة السورية ضد مقاتلي “حزب الله.” وهم في غالبيتهم ينتمون الى سنّة طرابلس وعكار.
وربما دفعهم الى هذا المعترك التحدي السافر الذي أعلنته قيادة “حزب الله” بأنها على إستعداد لمحاربة خصومها ومنتقدي مشاركتها في الحرب الأهلية السورية… ولكن فوق الأرض السورية.
التطمين الآخر الذي زرعته واشنطن في صدر العماد قهوجي، جاء خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها للعاصمة الاميركية. وكان ذلك لحضور مؤتمر دول التحالف الساعية الى محاربة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وسوريا (داعش).
وطالب العماد بضرورة زيادة المساعدات العسكرية من أجل محاربة التطرف، وضمان أمن الحدود، وتطبيق القرارات الدولية (1559-1701).
وحدث أثناء إنعقاد المؤتمر، الذي إستمر ثلاثة أيام، أن جدد رئيس هيئة الأركان الاميركية مارتن ديمبسي تأكيده بأن واشنطن لن تدخل في لعبة تسمية مرشح رئاسة جمهورية لبنان.
وقال أيضاً إن الخيار يعود للبنانيين وحدهم، بالرغم من الأهمية التي توليها واشنطن لقرار إستعجال ملء الفراغ.
ومثل هذا الكلام المعسول لا ينطبق على واقع الحال في لبنان، لأن نواب الشعب فشلوا مرات عدة في إنتخاب رئيس. لهذا السبب أعلن رئيس المجلس نبيه بري تأجيل الجلسة التالية الى العاشر من كانون الأول. وفي ظنه أن إنفراج العلاقات بين الولايات المتحدة وايران يمكن أن يسهّل ظروف الاتفاق على رئيس.
وهذا ما أوحت به كتلة “المستقبل” خلال إجتماعها يوم الثلثاء الماضي برئاسة فؤاد السنيورة، وقد حددت في بيانها مخاطر شغور الرئاسة، واعتبرت أن هذا الواقع الممثل باندماج “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” سيؤدي الى مزيد من الارتباك والفوضى السياسية والأمنية.
حكومة تمام سلام، أعربت عن قلقها من تداعيات المأزق الدستوري الذي سببه إنشطار مجلس النواب العاجز عن إنتخاب رئيس. لذلك قررت إلغاء العرض العسكري الذي يتم عادة بحضور الرؤساء الثلاثة وممثلي السلك الديبلوماسي.
وقد أزعج هذا القرار الرئيس السابق الذي دعا الى إنتخاب رئيس بالسرعة القصوى، مؤكداً أن لبنان لا يجوز أن يبقى مقطوع “الرأس.” وطلب من النواب الخروج من الدائرة المفرغة، وإنتخاب خلف له حسب إتفاق الطائف لا حسب قيود الطائفية. ويبدو أن عزوف الحكومة عن الاحتفال بعيد الاستقلال قد أقلق وزير الخارجية جبران باسيل، الذي أوصى السفراء بضرورة إقامة حفلات الابتهاج لأن حضور لبنان أهم من غياب رئيس الجمهورية. وتحصَّن بالمنطق الذي يقول إن السفارات ظلت ناشطة خلال هذه المناسبة، طوال سنوات الحرب.
المهم أن الوزير جبران باسيل خالف قرار الحكومة التي يشارك فيها لعل الظروف المقبلة تخدمه في حال بقيت الحظوظ مقفلة في وجه عمّه ميشال عون.
كذلك يتوقع زعيم “المَرَدة” سليمان طوني فرنجية، أن يجيِّر له عون المساندة المطلوبة في الدورة المقبلة، خصوصاً أنه إحترم علاقة التحالف التي تجمعهما ولم يغادر غرفة الانتظار.
أما الوزير السابق جان عبيد فقد إبتسم له الحظ إثر مقتل الرئيس رينيه معوض. ولكنه أعرَضَ عن قبول عرض سوريا في حينه في انتظار مرور فترة إنتقالية.
وهو حالياً ينتظر تحرك داعميه الأساسيين نبيه بري ووليد جنبلاط، إضافة الى تأييد دول إقليمية إلتزمت بمناصرته لدى العواصم الكبرى.
وهذا ما دفعه الى إلتزام الصمت على أمل الانتقال من “قصر تربل” الى قصر بعبدا…