IMLebanon

مَنْ يجرؤ على هزّ الإستقرار؟!

 

بصرف النظر عن مآل إعادة المحاكمة في قضية الحاج – غبش – عيتاني، ومدى الصلاحيات، والإجراءات والمحاكمات والقرارات، وانتصار وجهة النظر القانونية هذه أو تلك، والجزء الأخير من الفقرة الرابعة من المادة 13/أ.م.ج، التي تنصّ: «وفي حال الخلاف بين هذا المرجع (النائب العام لدى محكمة التمييز) وبين النيابة العامة الاستئنافية أو النيابة العامة المالية أو مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، يكون للنائب العام لدى محكمة التمييز خلافاً لأي نصّ عام أو خاص، أمر البتّ نهائياً في هذا الموضوع».

 

بصرف النظر عن المجرى القانوني، وخلفياته السياسية، فإنه مدخل يعطي فكرة واضحة عن أزمة اقتسام السلطات، وتوزعها بين الطوائف والمذاهب، ومن بينها القضاء كسلطة مستقلة، ويترابط مع هذه الأزمة، أزمة عمل الضابطة العدلية، وارتباطها أيضاً بتقاسم الحصص على مستوى السلطات أو الأجهزة الأمنية، في محاولة بدأت منذ خلوات بكفيا، في عهد الرئيس أمين الجميل بعد العام 1983، وغداة إسقاط اتفاق 17 أيار 1983، باستحداث مركز أمن الدولة، واسناده إلى الطائفة الشيعية، بطلة انتفاضة 6 شباط 1984، واستمرت، وتكرست بعد اتفاق الطائف، وفي زمن تطبيقه، وتوزَّع صلاحيات الحكم المنقسم عامودياً وأفقياً، بأن أصبح لكل مذهب أو طائفة، جهازاً، هو في الأصل من أجهزة الدولة وسلطاتها، تعيّن قائده أو مديره، وبالتالي يصبح من الممكن التحكم في مجمل سياساته، وأدائه الوظيفي.

 

المسألة، هنا، هي أبعد من قضية ومحاكمات وبراءات وفذلكات وتسجيلات، «وفرع معلومات» أو «أمن الدولة» أو أي جهاز آخر، وإلَّا لما انفجر الموقف، سجالات، كادت تصل إلى اتهامات، وتوسعت، لتحمل هوّة، انكشفت، أو أخذت بالاتساع، بين أطراف التسوية السياسية، التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وكرست رئاسة الحكومة لتيار «المستقبل»، وأبقت على دورين متمايزين، ولكن متكاملين لكل من الرئيس نبيه برّي وحزب الله.

 

إلى هنا، يبقى المسار اللاحق على هذه الجبهة، بيد المعنيين، وكاتب هذه الأسطر، ليس منهم.. للذهاب مباشرة إلى السؤال المحوري: هل انتهت التسوية السياسية، وعلى أيّ نحو سيسير الموقف في ضوء الاشتباك الآخذ بالإتساع والإستمرار بين التيار «الأورنجالي» (البرتقالي) والتيار اللازوردي (أي الأزرق)، لئلاً يأخذ التعبير حراجته، من أجواء ما يجري، بين المارونية السياسية العائدة إلى السلطة على ظهر المحور المناوئ «للإعتدال العربي» وتحالفاته الدولية، أقصد به «محور المقاومة»، الذي تقوده إيران، في لحظة مواجهة غير مسبوقة مع الولايات المتحدة الأميركية، على حساب «السنيَّة السياسية» (وهذان التعبيران للوزير جبران باسيل)، التي جاءت على ظهر اتفاق الطائف، ومعادلات المرحلة آنذاك، أي (س.س) + المحور الدولي بقيادة الولايات المتحدة، التي طرحت وقتها التسوية في الشرق الأوسط، من عدسة السلام العادل والشامل، التي كان يرى فيها الرئيس الراحل حافظ الأسد، إمكانية استعادة الجولان من خلالها، سواء في حقبة الوزير الأميركي جيمس بيكر، أو الوزير الديمقراطي (والأميركي أيضاً) وارن كريستوفر.

 

إذاً، المسألة، أبعد من قرار قضائي، وملف ملفق أو حقيقي، مزيف، أو لديه صحة وصدقية، هي أزمة نظام، أو أزمة اقتسام السلطات داخل النظام المعروف باتفاق الطائف، الذي يتعرّض الدستور المنبثق عنه إلى هزات، واجتياحات، وفذلكات، وإجتهادات لا مكان لها في علم الدساتير، أو تجربة أنظمة الحكم السوية… أو على حدّ تعبير النائب السابق وليد جنبلاط، في آخر تغريداته صباح أمس «الحالة من التردي وتحنيط الطائف» الناجمة عن «التفاهمات التي سبقت انتخاب الرئيس عون»، في إشارة، ربما إلى مسؤولية تيّار «المستقبل»، وربما أيضاً رئيسه، الرئيس سعد الحريري.. هذه التسوية التي سار فيها، ولكن من خارجها الرئيس نبيه برّي، الذي في «فمه ماء» وهو يستعد لإدارة معركة، من أقسى المعارك البرلمانية، منذ ان تولى رئاسة المجلس بعد انتخابات عام 1992، وأقصد معركة إقرار الموازنة العائدة للعام 2019، والتي تتعرض لأخطر حملة أو أزمة تشكيك، تجعل من أية تعديلات تمس جوهرها، حجر عثرة، ليس أمام مقررات «سيدر» (المنتظرة)، بل أمام موازنة العام 2020، على مرمى حجر من انتخابات الرئاسة الأولى عام 1922..

 

وعلى وقع الموازنة، المحاصرة بالاضرابات، والتحذيرات (وآخر التحذيرات ما نسب إلى قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون من تحذير من المـسّ بحقوق الضباط والعسكريين) واستمرار اعتكاف نادي القضاة اللبنانيين، واضراب أساتذة الجامعة اللبنانية، الذي بات يهدّد العام الجامعي، أو ينذر بأزمة بين أهل الجامعة نفسها، وليس بين الجامعة والحكومة..

 

على ان للمسألة أوجهاً اخرى: ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس الحريري، الذي حملت كلمته إلى القمة العربية الاستثنائية التي عقدت فجر الخميس – الجمعة الماضي، «إطار تفاهم» مع الرئيس عون، يناشد «الأشقاء العرب حماية الصيغة اللبنانية من عواصف المنطقة»، كان حزب الله يرصد، مع كثيرين مضمون الكلمة، التي قيلت في قمّة مكة، ليسدّد أمينه العام السيّد حسن نصر الله أكثر من ضربة، حتى ولو كانت هذه الضربات، تطال التسوية السياسية، وحتى «المساكنة» داخل حكومة «الى العمل» طارحة السؤال الخطير: من يجرؤ على هز الاستقرار، على الرغم من تلاحق الأزمات، من المواجهة، في بحر العرب إلى المواجهات على ساحة الموازنة؟.

 

جاء في كلمة الحريري: «إننا ندين أشدّ إدانة، الاعتداءات التي تعرّضت لها دولتا الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وندعو إلى أوسع تضامن عربي في مواجهتها»..

 

لم تمضِ ساعات، حتى كان السيّد نصر الله، في كلمة لمناسبة إحياء الحزب يوم القدس العالمي، في ضاحية بيروت الجنوبية، يستخدم العبارات نفسها، ليدين مضمون الموقف الذي عبَّر عنه الرئيس الحريري، بوصفه يمثل لبنان في القمة، واعتبر ان موقف الوفد اللبناني (للتذكير كان يضم إلى الحريري الوزيرين جمال الجراح ووائل أبو فاعور) «مرفوض ومُدان ولا يمثل لبنان، وهو يمثل الأشخاص والأحزاب التي ينتمي إليها هؤلاء الاشخاص»، مميزاً بين القوى السياسية التي «لا تنأى بنفسها» والحكومة اللبنانية التي «عليها ان (تنأى بنفسها)».

 

وبصرف النظر عن قدرة محور المقاومة، على إسقاط «صفقة القرن» أم لا (مع تأكيد السيّد نصر الله على قدرة المحور والشعب الفلسطيني على إسقاط الصفقة)، فإن الأسئلة، تتوالى عن مصير التسوية السياسية، وبالتالي، قدرة الحكومة على الاستمرار بالعمل، بمعزل عن مسار الموازنة، ومناقشاتها وإقرارها، والتي أصبحت في عهدة المجلس النيابي ورئيسه، الملتزم بالتفاهمات الدولية في مؤتمر «سيدر»، والذي يُشكّل نقطة تقاطعات (Political conjunction) بين أطراف التسوية، وبين أطراف التسوية ومحوري «الاعتدال والمقاومة»، على خلفية الحاجة الملحة عربياً، لحماية لبنان من التوطين، وعدم السير بأيّة خيارات تنسف معادلات حق العودة «وحلّ الدولتين»..

 

1 – ضغط حزب الله، باتجاه تمرير الموازنة، بأي ثمن، بما في ذلك ثمن تمرير 2٪ رسوم على السلع المستورد، وقبول فرض ضرائب على رواتب التقاعد، بنسب تقدرها وزارة المال، في سابقة غير معروفة، بأي نظام تقاعد، ربما في العالم..

 

2 – قال حزب الله ان المواجهة ستكون في المجلس النيابي، وهذا يعني اسدال الستار عن خطوة دستورية، تقضي بوصول الموازنة إلى المجلس، ولو كانت «ميتة» بلغة جنبلاط، أو لا تُلبّي الطموحات وتتعارض مع ما هو معلن بالنسبة لحزب الله، الذي سيقاتل في لجنة المال والموازنة لإسقاط ضريبة 2٪ على المستورد من سلع، وضريبة الدخل على النظام التقاعدي.

 

3 – ثمة تفاهمات حصلت، وحتى تعهدات بأن الموازنة ستخرج من مجلس مجلس النواب، وهي تحافظ على نسبة العجز المتفق عليها 9٪، بصرف النظر عن خلطة الأرقام والأبواب والمواد..

 

4 – يعتبر الرئيس الحريري وتياره، أن لا بديل له عن الشراكة التي تدير الدولة في حقبة «الرؤساء الأقوياء»، بتعبير السيّد باسيل، الذي يمضي في معاركه، حتى يرث الله الأرض وما عليها! وبالتالي يعتقد ان التفاهمات مع كل من الرئيسين عون وبري غير قابلة للإهتزاز..

 

5 – بعد كلام النائب نهاد المشنوق من دار الفتوى، يُمكن الانتباه إلى ان مزاجاً عاماً في الشارع السنَّي، يجنح إلى عدم السكوت، أو عدم السير «بتنازلات جديدة» وفقا لهذا المزاج.

 

من أزمة المحاكمات، وحشر القضاء والأجهزة الأمنية في الزاوية، إلى أزمات الموازنة، والتوظيف العشوائي، إلى أزمة احتجاز حزب الله مكاناً له في أزمة المنطقة، في ضوء رسائل أمينه العام الأخيرة، سواء في ما خص تصنيع الصواريخ، أو إشعال المنطقة إذا وقعت المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، إلى أزمة اتهام الحكومة بالخروج عن البيان الوزاري… تتدحرج كرة النار باتجاه لبنان، على الرغم من الفقرة الاستلحاقية في بيان القمة الإسلامية (وهي إحدى القمم الثلاث التي عقدت في مكة يومي الخميس والجمعة) عن حق لبنان باستخدام كل الوسائل لتحرير أرضه، ودعمه في تحمل عبء النزوح السوري..

 

ومع ذلك، ثمة من يعتقد ان لعبة تجميع الأوراق، لا تعني فرضية «حتمية المواجهة»، فالأطراف اللبنانية تبني حضورها، والمشاركة أيضاً، عبر إطار «حكومة الوحدة الوطنية».. وأي بحث بهذا الإطار، حسب هؤلاء، يعني تعريض المصالح العامة والخاصة للخطر.. ولا  أحد لديه الجهوزية أو الإمكانية للمغامرة في غير طريق الاستقرار؟!