IMLebanon

من له مصلحة في كارثة الطائرة الروسية غرب سوريا؟

 

كارثة طائرة «إيل 20»، التي كان على متنها 15 عسكرياً روسياً في أجواء سوريا، غرب ساحلها، يمكن أن تؤدي إلى أزمة حادة في العلاقات بين روسيا وإسرائيل. وزارة الدفاع الروسية، بعد كشف كل ملابسات المأساة، حملت إسرائيل كامل المسؤولية: المقاتلة الإسرائيلية استخدمت عن عمد الطائرة الروسية كغطاء لها. بدورها، إسرائيل نفت كل هذا، ووجهت الاتهام إلى السوريين.

أود الإشارة هنا إلى أن ردة الفعل الأولى للرئيس فلاديمير بوتين في شأن هذه المأساة كانت حذرة، حيث تحدث عن «سلسلة مصادفات مأساوية»، مؤكداً في الوقت نفسه ضرورة تعزيز أمن القوات الروسية في سوريا. تقييم وزارة الدفاع المنسق مع الرئيس بوتين كان منذ البداية أكثر حدة؛ اتضح أن العسكريين الإسرائيليين بلغوا روسيا عن غارة طائراتهم قبل دقيقة واحدة فقط من تنفيذها، مما لم يفسح المجال لإبعاد الطائرة الروسية إلى منطقة آمنة. عدا ذلك، فإن المناوب في القوات الجوية الإسرائيلية (ضابطة برتبة عقيد) ضللت شركاءها الروس بقولها إن الضربة ستوجه إلى أهداف شمال سوريا، بيد أن الضربات وجهت إلى أهداف في غرب سوريا، بالقرب من مدينة اللاذقية، أي في منطقة تمركز القوات الجوية الفضائية الروسية، لكن الرد من قبل المناوبة الإسرائيلية على الطلب الروسي، الذي وجه فور وقوع كارثة الطائرة، لم يأتِ إلا بعد مرور 50 دقيقة.

المحللون في حيرة من أمرهم لمعرفة سبب هذا التصرف غير الصديق من قبل الطيارين الإسرائيليين (وغباء قصر النظر، إذا أخذت بعين الاعتبار مصلحة إسرائيل في التعاون مع روسيا)! هل عملوا وفقاً لأمر من الأعلى أم بمبادرة شخصية؟ هل ما حصل هو استفزاز تم التحضير له خصيصاً لزرع الفتنة بين موسكو وتل أبيب أم أن كل شيء يمكن شرحه ببساطة: العسكريون الإسرائيليون لا يأخذون نهائياً مصالح روسيا بالحسبان؟

لقد تراكم منذ فترة طويلة لدى العسكريين الروس استياء من الخروق التي تقوم بها إسرائيل لسيادة سوريا عبر الغارات الجوية على أراضي هذه الدولة، حتى لو صرفنا النظر عن مسألة شرعية أو عدم شرعية أعمالهم؛ لماذا كان يجب التخطيط لتوجيه ضربة لموقع صناعي في هذه الدولة، مع أن هذا الهدف لم يكن ليغير مكانه بين لحظة وأخرى في الوقت نفسه الذي وجدت به الطائرة الروسية في الجو، بالإضافة إلى أنها بطيئة في السرعة والمناورة؟ (وهنا أود الإشارة إلى أن الإسرائيليين يوجهون الضربات إلى المواقع الصناعية في سوريا، مؤكدين أن الإيرانيين يستخدمونها لتطوير الصواريخ، ويحاولون استخدام الروس كدروع بشرية، كما يزعم الإسرائيليون).

ليس هناك ما يثير الدهشة في أن هذه الأحداث استدعت ردة فعل حادة في أوساط المجتمع الروسي، حيث اعتبرت تصرفات الشركاء الإسرائيليين غير مهنية، أو إهمالاً إجرامياً، أو غدراً. تصريحات الشخصيات الرسمية الروسية، والمحللين الروس، حملت استياءً كبيراً من إسرائيل (التي عبثاً بدأت بتوجيه الاتهامات لهم بالكراهية لليهودية، حيث إن عدداً كبيراً منهم عمل الكثير من أجل تطوير العلاقات مع إسرائيل، واجتثاث معاداة السامية)، التي كما يؤكدون مدينة بالكثير لروسيا.

فقد لعب الاتحاد السوفياتي منذ بداية تأسيس دولة إسرائيل في عام 1947 دوراً أساسياً في اتخاذ الأمم المتحدة قراراً بتشكيل دولتين ديمقراطيتين مستقلتين في فلسطين: دولة عربية، ودولة يهودية. وأذكر بأن أندريه غروميكو، الممثل الدائم للاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة حينها، الذي من ثم أصبح وزيراً للخارجية، خلال كلمته في الجلسة الثانية للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال: «يشير ممثلو الدول العربية إلى أن تقسيم فلسطين يعتبر إجحافاً تاريخياً، لكن لا يمكن الاتفاق مع هذا الرأي، على الأقل لأن الشعب اليهودي كان له علاقة بفلسطين خلال مرحلة تاريخية طويلة الأمد».

ويتابع: «عانى الشعب اليهودي، نتيجة للحرب التي أشعلتها ألمانيا الهتلرية، أكثر من أي شعب آخر». وبالحديث عن «الدور التاريخي» لقرار تقسيم فلسطين، أكد غروميكو أن هذا القرار «سيلبي المطالب الشرعية للشعب اليهودي»، لكن لم تمضِ فترة طويلة حتى بات الاتحاد السوفياتي وإسرائيل خصمين، ولم تتعافَ العلاقات مع إسرائيل إلا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. للأسف، لم يتسنَ إقامة دولة فلسطين المستقلة إلى هذه اللحظة، رغم أن روسيا تقوم بكل ما بوسعها للتوصل إلى ذلك. الموقف غير البناء لحكومة بنيامين نتنياهو، ونزعتها التوسعية، هو العائق الأساسي للوصول إلى هذا الهدف.

الناطق الرسمي لوزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، وجه خلال مؤتمر صحافي، جرى في 23 سبتمبر (أيلول)، انتقاداً لإسرائيل بسبب عدم التزامها بالاتفاقية الروسية – الإسرائيلية بشأن تجنب وقوع حوادث تصادم في الجو (deconflicting)، حتى أنه استطرد مثالاً على التزام العسكريين الأميركيين الصارم باتفاقية مشابهة مع روسيا. ما أدهش أيضاً أن اللواء كوناشينكوف وضع في الكفة المقابلة للإسرائيليين، الذين لم يساندوا نظام العقوبات ضد روسيا، ويحترمون المحاربين القدامى في الحرب العالمية الثانية، من الذين جاءوا إلى إسرائيل، ويتعاونون مع موسكو بشكل وثيق، وضع الأميركيين بالذات، حيث علاقات موسكو معهم على أقل تقدير غير ودية. وبحسب معلومات وزارة الدفاع، وجهت الطائرات الإسرائيلية أكثر من 200 ضربة إلى أهداف في سوريا، لكن الإسرائيليين أنذروا العسكريين الروس قبل لحظات قليلة فقط من توجيه الضربات في 25 حالة فقط، ولم يتفاعلوا مع الملاحظات الموجه إليهم. ويبقى من الواضح أن الجهة الروسية لا تنوي تحمل هذا الوضع بعد الآن.

يتذكرون أيضاً في موسكو اليوم كيف توجهت إسرائيل في عام 2010 إليها بطلب لإيقاف توريد منظومات «إس 300»، بعد أن كانت تنوي موسكو البدء في تنفيذ عقد موقع مع دمشق بقيمة 400 مليون دولار أميركي على توريد هذه المنظومات، بحجة أن هذه المنظومات باستطاعتها تغطية كامل المجال الجوي الإسرائيلي. وفي هذه الحالة، أخذت موسكو بالحسبان قلق تل أبيب، وامتنعت عن تنفيذ العقد، وأعادت الأموال التي دفعت.

ويتذكر الدبلوماسيون ما جرى في عام 2016، قرب انتهاء ولاية باراك أوباما الرئاسية، كيف قررت الإدارة الأميركية اقتراح مشروع قرار على مجلس الأمن بشأن التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية، وكيف بذل وزير الخارجية الأميركي جون كيري جهوداً حثيثة محاولاً إقناع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بمساندته. لكن حكومة نتنياهو التي رأت أن خطة أوباما غير مقبولة توجهت إلى القيادة الروسية بطلب لرفضه، وعدم السماح باتخاذ هذا القرار. والقيادة الروسية دعمت هذا الطلب، خصوصاً أن الفلسطينيين كانوا ينظرون بانتقاد إلى المبادرة الأميركية الجديدة. رأوا في موسكو أن مشروع أوباما يضع «معايير مصطنعة» للتوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة، وأن كل هذه المشكلات يجب حلها في إطار عملية مفاوضات مفتوحة، على أساس مبادئ الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن. وعلى هذا الأساس، لم يتم اعتماد هذا المشروع.

هناك أمثلة في يومنا الحاضر لا تقل عن سابقاتها دهشة. فلقد تجاوبت روسيا، خلال فترة احتدام المعارك في حلب، مع طلب إسرائيل إعادة بناء الكنيس المدمر هناك، وكذلك البحث عن رفات لضحايا إسرائيليين سقطوا في السابق، حيث اضطرت روسيا للمخاطرة بعملية أصيب خلالها عسكري روسي على يد إرهابيي «داعش». عمل آخر يمثل خطوة مثيرة للإعجاب، حين تم تسليم نتنياهو، بطلب منه ومن قيادة القوات المسلحة الإسرائيلية، في 8 يونيو (حزيران) 2016، دبابة إسرائيلية «ماغاش – 3» كان محتفظ بها في موسكو، وهي من بين 4 دبابات غنمها الجيش السوري من كتيبة الدبابات 734 خلال معركة السلطان يعقوب، إبان حرب لبنان في 11 يونيو 1982.

ومنذ فترة قريبة جداً، اتفقت روسيا وإسرائيل على أن وحدات الشرطة العسكرية الروسية ستضمن أمن قوات حفظ السلام الأممية التي عادت بعد غياب دام 6 سنوات إلى منطقة فض الاشتباك بين الجيش الإسرائيلي والجيش السوري في الجولان. موسكو لبت رغبة إسرائيل، وتوصلت إلى إبعاد الفصائل الموالية لإيران لمسافة تتراوح بين 85 كلم و140 كلم عن الحدود مع إسرائيل، في الجنوب الغربي السوري. ليس من الصعب تخيل كم كلف هذا العمل من جهود جمة للمفاوضين الروس. «ناكرو الجميل» هي الصفة الأكثر انتشاراً في هذه الأيام التي يستخدمها الروس في وصف شركائهم الإسرائيليين.

ينظر الخبراء في سيناريوهات مختلفة لتطور الوضع في العلاقات بين الدولتين، منها تفاؤلية وأخرى تشاؤمية، لكنني واثق من أنه لن يقوم أي من الطرفين بخطوات متهورة، مثمنين بذلك النجاحات التي تم التوصل إليها من خلال تعاونهما ذي المنفعة المتبادلة، إلى جانب مصلحتها في الحفاظ على هذا التعاون. فتنوي موسكو، التي تقف على مسافة واحدة، أو بالأحرى تقترب بالمسافة نفسها في موقفها من أطراف النزاع الشرق أوسطي، مواصلة دورها كوسيط. ويطرح في روسيا سؤال: من له مصلحة في كارثة الطائرة الروسية في الأجواء السورية؟ من الواضح أنها ليست في مصلحة الروس ولا الإسرائيليين، وبالتأكيد ليست من مصلحة العرب.

في اللحظة نفسها التي أنهيت فيها كتابة هذه المقالة، يوم الاثنين 24 سبتمبر، جاء قرار وزارة الدفاع الروسية بشأن تسليم دمشق منظومة «إس – 300» الصاروخية خلال أسبوعين. هذه المنظومة قادرة على رصد وإصابة الأهداف على مسافة تزيد على 250 كلم. عدا ذلك، فإن مراكز التحكم لقوات الدفاع الجوي السورية سيتم تزويدها بأنظمة تحكم أوتوماتيكية متطورة، مما سيسمح بالتعرف على الطائرات الروسية. وسيتم كذلك التشويش في أجواء المياه الإقليمية السورية فوق البحر المتوسط على رادارات الطائرات الحربية التي تهاجم مواقع داخل الأراضي السورية.

يبدو لي لو أن إسرائيل تفاعلت مع الحادث مباشرة بتصريح يؤكد أنها تضمن وقف أي غارات على الأراضي السورية (عدا الحالات الاستثنائية الناتجة عن تعرضها لهجوم)، لكان بإمكانها منع مثل هذا التطور للوضع غير المرغوب به بالنسبة لها. على كل حال، روسيا هي دولة ذات سيادة، ولها الحق في اتخاذ القرارات التي ترى أنها تتسق مع مصالحها الأمنية وأمن مواطنيها.

 

* خاص لـ«الشرق الأوسط»