الوضع في المنطقة يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، والتسوية فـي سوريا لا تزال بعيدة المنال، نظراً لتشابك القوى، والأهداف المتناقضة للجبّارين الأميركي والروسي.
معظم الدول منشغلة بأزماتها الداخلية، بعضها مُتخوّف من الصراعات العرقية والدينية والمذهبية المحيطة به، والبعض الآخر منغمس حتى العظم في تلك الصراعات. النزوح والهجرة يغيّران وجه المنطقة والعالم، والكفر والإرهاب يجتاحان الأوطان القريبة والبعيدة، ونحن الذين نعيش في قلب العاصفة، وينهشُنا الفقر والعوز والعجز والديون الثقيلة، لا يزال بعضنا يتلهّى بالخطابات والتحدّيات التـي لا تطعم جائعاً ولا تنقذ وطناً.
بعض السياسيين يرسم سيناريوهات رئاسية من نسج الخيال، ويتلقّى وعوداً لا أساس لها من الصحة، ومع هذا، ينتظر «غودو» في آب، وإن لم يأتِ فـي آب، سيأتي فـي أيلول، أو تشرين، أو بعد الإنتخابات الأميركية، أو بعد إنتهاء معركة حلب، أو بعد تقسيم الـمنطقة… إنها «دونكيشوتية» العبث، حيث لا شيء يحدث ولا أحد يأتي.
إنّ التصعيد الأخير على جبهة «حزب الله» – تيار «الـمستقبل»، يرتدي طابع الإعلان غير الرسمي عن إنسداد أفق الحوار، والإستحقاق الرئاسي الذي وُضع مجدّداً فـي الثلاجة، في إنتظار ما سيتأتّى عن لهيب أزمات المنطقة، يحتاج إلى «مايكروويف» وطني ينزع عنه الجليد، وإلى صحوة وطنية، وتواضع، وتنازل، وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الذاتية.
بعد سنتين وثلاثة أشهر من الفراغ الرئاسي، أيقن الجميع أنه توجد إستحالة فـي إنتخاب العماد ميشال عون أو النائب سليمان فرنجية، لأنّ إنتخابهما يشكّل تحدّياً لنصف اللبنانيين على الأقلّ، ومرتبط بحسابات دولية وإقليمية معقّدة لن تنتهي فـي المدى المنظور، فالذي أيقظ الفتنة السنّية – الشيعية بعد 1400 سنة، لن يدعها تنام أو ترتاح في وقت قريب، والذي أوعز إلى الرئيس سعد الحريري بمفاوضة الجنرال ميشال عون على الرئاسة، ثمّ تراجع من دون سبب، ليعود ويرشّح النائب سليمان فرنجيه من دون أيّ سبب آخر، فهذا لا يريد رئاسة ولا جمهورية ولا وطن.
لقد صحّت توقعات «حزب الله» في حزيران 2014، والتي أشرنا إليها في مقال سابق، «أن لا إمكانية لانتخاب رئيس إلّا من خارج إصطفافات «8 و14 آذار»، ولا إمكانية لملء الشغور الرئاسي إلّا برئيس توافقي». فهل أصبح الرئيس التوافقي اليوم «ملعوناً» ومن المحرّمات «الإلهية»؟
منذ عام 2011 وحتى أيار 2014، كان المسيحيون، وعلى رأسهم بكركي، يريدون الرئيس القوي، لأنهم طوال فترة الوصاية السورية، لم يتمكّنوا من إيصال أيّ زعيم من زعمائهم إلى السدّة الرئاسية. فأُوكلَت المهمة إلى البطريرك الماروني، الذي تمكّن في نيسان 2011، بعد شهر من إنتخابه، من جمع أقطاب الموارنة الأربعة، بعد عقود من التخاصم، فاستبشر المسيحيون خيراً، وخصوصاً بعدما توافق الأقطاب الموارنة في آذار 2013، وشباط وآذار2014 على وجوب إحترام إجراء إستحقاق إنتخاب رئيس للجمهورية في موعده الدستوري، والحرص على حضور جلسة إنتخاب الرئيس والدورات التي تلي، وحق الأقطاب الأربعة في الترشّح لامتلاكهم الصفات المؤهّلة.
وقال المطران سمير مظلوم في هذا السياق: «إتفق الأقطاب الموارنة على أنّ ترشيح كلّ منهم للرئاسة مقبول من الآخرين، وتعهّدوا أنّ أحداً من الأربعة لا يضع فيتو على الآخر».
ولكن، وللأسف الشديد، لم تصحّ حسابات بكركي، ولم يلتزم الأقطاب بتعهداتهم. ففي 4 نيسان 2014، أعلن الدكتور سـمير جعجع ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وفـي 22 نيسان عقد المجلس النيابي أوّل جلسة لانتخاب الرئيس، فاستيقظت روح الفتنة مجدداً، وفُتحت صفحات أليمة من تاريخ الوطن، وأخفق المجلس فـي إنتخاب خلف للرئيس ميشال سليمان، ويُمكن إختصار النتائج التي خرجت بها الدورة الأولى، بأنها أظهرت حجم القوّتين الأساسيّتين «8 و14 آذار»، وعدم قدرة أيّ منهما على إيصال مرشّح من داخلها إلى سدّة الرئاسة، وكرّست نظرية الرئيس التوافقي الذي أراده الشيخ نعيم قاسم في حزيران 2014، وهذا ما فتح باب التفاوض حول مرشّح يرضى عنه الطرفان ولا يثير ريبة الدول المؤثّرة فـي لبنان. فلا الـ 48 صوتاً التي حصل عليها الدكتور جعجع تخوّله الوصول إلى سدّة الرئاسة، ولا أصحاب الـ 52 ورقة بيضاء يستطيعون إيصال رئيسهم العتيد.
ومنذ نيسان 2014 وحتى اليوم، وبعد 43 جلسة طغت عليها «مهزلة النصاب»، والوضع الرئاسي يدور في حلقة مفرغة، على رغم التنازلات الكبيرة و»الشطحات» الفاشلة والمتهوّرة وغير المدروسة لفريق «14 آذار».
الآن، وبعدما وصلنا إلى حائط مسدود، وانهارت مؤسّسات الدولة الدستورية، والسياسية، والإقتصادية، وكفر الناس بالسياسيين والأحزاب وبكلّ شيء، هل يجوز، وهل من الوطنية والأخلاق والضمير أن يبقى فريق متمسّك بالعماد ميشال عون، وفريق آخر متمسّك بالنائب سليمان فرنجيه كمرشحَين وحيدَين لرئاسة الجمهورية؟ «ولو»! لم يعد في هذه الجمهورية سوى هذين الرجلين؟
فهل خلقهما الله و«كسر القالب»؟ صحيح أنّ الأكثرية المسيحية تدعم وصول العماد عون إلى قصر بعبدا، إلّا أنّ هذا الوضع لا يبرّر أبداً إبقاء البلاد رهينة الإصرار على هذا الموقف، «ولو خرِب البلد»! فالوطن أكبر وأهمّ من الجميع.
لقد طرحنا في مقال سابق حلّاً «وسطياً»، وهو إعتماد الحلّ الذي لا يشكّل تحدّياً واستفزازاً وانكساراً لأيّ فريق، فرئيس جمهورية لبنان يجب أن يكون مقبولاً من كل مكوّنات الوطن، لا مفروضاً من فريق على الأفرقاء الآخرين، مهما كبرت وتعاظمت قوة ذاك الفريق، فالميثاقية الصحيحة تبدأ بالتوافق وتنتهي بالتوافق، لا بالفرض، ولا في تشريع «تعطيل النصاب»، وترْك الوطن في المجهول.
إننا ندعوكم أيها السادة الزعماء إلى احترام الدستور وعدم ربط إنتخاب الرئيس بأيّ سلّة، لأنها تعقّد الأمور بدل تسهيلها، وإلى تغليب مصلحة الوطن على مصالحكم الذاتية، وأن تتوافقوا على رئيس لفترة إنتقالية من سنتين، ريثما ينقشع غبار المعركة الإقليمية، ويتمّ إنتخاب المجلس النيابي الجديد وفق قانون إنتخابي جديد يؤمّن التمثيل الصحيح لكلّ فئات الشعب.
هذا الرئيس، يسمّيه البطريرك الماروني (لهذه المرة فقط)، ويوافق عليه المرشّحان، العماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية، رئيس من خارج كلّ الإصطفافات، ولا يشكّل إنتخابه تحدّياً لأيّ فريق، فالظرف الإستثنائي يتطلّب حلّاً إستثنائياً، لا وضع شروط جديدة مثل «التفاهم المسبق على ما بعد الرئاسة، وعلى قانون الإنتخاب وعلى تشكيل الحكومة».
هذا هو الحلّ «الوسطي» الذي نطرحه الآن، ولا نجد حلّاً آخر سواه، ومَن لديه حلٌّ آخر، فليتفضّل، وبأسرع وقت ممكن، لأنّ الوطن الصغير، والشعب المُنهَك، والإقتصاد المُنهار، لا يتحمّلون ترف إنتظار «غودو» إلى ما لا نهاية.
* باحث وكاتب سياسي