البيان الذي وزعه مثقفون سوريون عبر المواقع الإلكترونية مستنكرين فيه ما بات يسمى «العنصرية» اللبنانية، يعبّر فعلاً عن المأزق الذي تشهده الآن العلاقات السورية – اللبنانية، وقد بلغ هذا المأزق حجمًا لم يبلغه سابقاً حتى في أيام الاحتلال السوري غير المعلن للبنان. فالعلاقات هذه يشوبها من التوتر ما يشوبها من الالتباس وسوء الفهم. والمسألة السورية الراهنة وقعت بل أوقعت في شراك المتاهة اللبنانية التي يتخبط فيها اللبنانيون أنفسهم أصلاً، وزجّ بها أيضاً في فخ الصراع الطائفي والمذهبي الذي يشهد الآن ذروة احتدامه. أضحت المسألة السورية نقطة خلاف بين اللبنانيين المنقسمين حولها انقسامهم نفسه حول النظام البعثي.
بعض اللبنانيين يؤيدون هذا النظام الدكتاتوري تأييداً أعمى دفعهم إلى دعمه عسكرياً وإلى القتال في صفوفه داخل الأراضي السورية، وبعض آخر ما زال يصرّ على مناهضة هذا النظام ومقاومته في طرق شتى ليس سياسياً فقط بل عسكرياً أيضاً عبر الانضمام إلى أعدائه ولو كانوا من الأصوليين المعروفين. وفي حمأة الانقسام اللبناني هذا كان لا بد من أن تتحول المسألة السورية «ورقة» مساومة ومراهنة لبنانياً وعلى صعد عدة.
قد يكون استخدام كلمة «العنصرية» لوصف حال الاضطهاد الذي يحاصر السوريين في لبنان غير مستهجن. وقد اعتمد هذه الكلمة لبنانيون كثيرون قبل أن يأخذ بها السوريون على اختلاف منازعهم. وليس الاضطهاد فقط ما يواجههم في لبنان بل كثير من الكراهية والضيم والضغينة والإذلال والتشفي… وباتت التهم تكال لهم ظلمًا وبهتانًا ومنها: تقويض الاقتصاد اللبناني، الفلتان الأمني، الاستيلاء على الموارد الداخلية، منافسة اللبنانيين في سوق العمل… وأقسى التهم هي تهمة الانتماء إلى الحركات الأصولية ونشر الإرهاب.
أما اللافت في بيان المثقفين السوريين الذي دان «الصمت اللبناني الرسمي المريب» حيال ما يحصل من مآسٍ يومية في المخيمات وخارجها، فهو دعوة أصحابه إلى عدم التعميم لبنانيًا في شأن الممارسة العنصرية. فالشعب اللبناني كما جاء في البيان، «يزخر بالشرفاء والأحرار المساندين لكفاح السوريين»، لا سيما أن مناضلين لبنانيين اغتيلوا وسجنوا وعذبوا خلال معركتهم الطويلة ضد النظام البعثي الذي خرّب لبنان قبل أن يخرّب سورية. واستنكر البيان وصف مخيمات اللاجئنين السوريين بـ «القنابل الموقوتة»، وهذا الوصف كما يضيف، تقف وراءه «عصابات النظام السوري وحزب الله والقوى الحليفة لهما».
ولم يتلكأ البيان عن وصف لبنان بـ «المحتل»، ولعلّه خرج هنا عن سياقه، ولو أن لبنانيين كثراً يقولون بهذا «الاحتلال» الذي يمارسه جهاراً حزب الله الملتزم إيرانيًا، سياسيًا وعسكريًا. ولم يسمّ البيان هذا «الاحتلال» إلا خوفاً على لبنان الذي طالما كان في نظر السوريين وطن الحرية والانفتاح والملجأ الذي كثيرًا ما لجأوا إليه سابقاً هرباً من جور واضطهاد… وفي هذا القبيل كتب الشاعر نوري الجراح أحد كتّاب البيان وموقّعيه على الفيسبوك يرثي لبنان الحرية قائلاً: «وداعاً يا لبنان الحريات البسيطة كيف تصبح وحشاً فاشياً بعمامة فارسية».
قبل ثلاثة أعوام هبّت موجة من الحقد ضد العمال السوريين في لبنان فراحوا يتعرضون للاضطهاد والتنكيل في بيروت والمناطق، وكان الحافز عزلهم عن العمل اليومي الذي ظنّ لبنانيون «متضررون» أن هؤلاء العمال ينافسونهم عليه. حينذاك كتب القاص السوري الراحل ياسين رفاعية رواية صغيرة مؤثرة عنوانها «سوريو جسر الكولا»، وقصده العمال السوريون المياومون الذي ينتظرون فرصة عمل عابرة، تحت الجسور أو في الساحات. أما الآن فأضحى السوريون «لاجئين»، أُدرجوا جميعاً في هذه الخانة ولو كان بينهم أثرياء ورجال أعمال وتجار يوظفون أموالهم في السوق اللبنانية، عطفًا على المثقفين والكتاب والفنانين الذين يلقون ظلالهم على الحياة الثقافية اللبنانية.
ما أكره أن يُسمّى السوريون الذين هجّرتهم وحشيّة النظام البعثي إلى لبنان «اللاجئين»، وأن توصف مخيماتهم بـ «القنابل الموقوتة». لم تبلغ الكراهية يوماً ما بلغته الآن في لبنان. من يكره السوريين؟