IMLebanon

مَن يقف وراء ستار سياسة لبنان النفطية؟

كتب وقيل الكثير عن أسباب عدم إقرار مرسومين نفطيين حتى الآن، وعن شلل سياسة البترول والغاز في لبنان منذ قرابة ثلاث سنوات. كما طرحت، وما تزال، أسئلة وعلامات استفهام كثيرة حول مضمون المرسومين العالقين وحول أسباب إحكام التعتيم على هذا المضمون.

وبانتظار أجوبة شافية على ذلك كله، ثمة سؤال تكفي الإجابة عليه لتفسير معظم الأسئلة وعلامات الاستفهام المشار اليها، ألا وهو: مَن الذي قام بصياغة نصوص المراسيم المذكورة، وما كانت أهدافه؟ أي بمعنى آخر مَن هو المسؤول الحقيقي عن رسم سياسة البترول والغاز في لبنان، وعن وضع خارطة الطريق لاستثمار الثروة الموعودة؟

لمعرفة الأجوبة، من الطبيعي أن تتجه أنظار اللبنانيين الى المسرح النفطي الذي يرونه يومياً في وسائل الاعلام، حيث يتعاقب عدد محدود نسبياً من كبار اللاعبين، في طليعتهم وزير طاقة سابق غاب دون أن يغيب، ووزير حالي يحضر ويغيب حسب الحاجة، وبعض المداومين من هيئة إدارة قطاع البترول الذين وضعوا في الواجهة وأصبحوا يظهرون وكأنهم في طليعة أصحاب الحل والربط في هذا الموضوع.

إلا أن ما يظهر على المسرح الإعلامي شيء وباطن الأمور شيء آخر. ولعل ان موضوع الساعة، أي النقاش الدائر حول المراسيم البترولبة العالقة، هو مثل حي على ذلك. فالاعتقاد السائد هو أن كل المراسيم التي وضعت حتى الآن، سواء ما تمّ إقراره أو لم يتم بعد، كان وإلى حد كبير من صنع، أو تمّ تحت إشراف الهيئة المذكورة، او انه على الأقل تمّ تحت مسؤوليتها. ويكفي لتقييم حجم ووزن هذه المسؤولية التذكير بأن مشروع المرسوم الخاص بنموذج اتفاقيات الإستكشاف والإنتاج المقترح إبرامها مع الشركات الأجنبية يتضمن، في 154 صفحة، كل الشروط القانونية والفنية والمالية والاقتصادية والضرائبية والبيئية والتشغيلية والإدارية وغيرها… وذلك كله في إطار اتفاقيات دولية مع شركات عالمية تفوق طاقاتها طاقات العديد من الدول، ولمدة تقارب الأربعين عاماً، تمتدّ على مرحلتي التنقيب والإنتاج، فضلاً عن التمديدات الممكنة!

تجدر الإشارة الى انه في حال، لا سمح الله، وحصل إقرار المرسومين العالقين، فإنهما يكتسبان صفة القانون وقوته، ويصبح بالإمكان على أساسهما توقيع اتفاقيات هي أقرب ما تكون الى معاهدات دولية يصبح من شبه المستحيل التراجع عنها!

ومن الحالات النادرة جداً التي تمّ فيها تخطي شبه المستحيل هذا، هو النزاع الذي نشب ببن روسيا وشركة «شل» العملاقة حول اتفاقية إنتاج الغاز في جزيرة ساكلين تجاه سواحل سيبيريا. انطلق النزاع عندما أدرك فلاديمير بوتين أن واحداً من الشروط الثانوية نسبياً (فتره استرداد النفقات الرأسمالية)، في العقد الذي تم توقيعه في عهد سلفه بوريس يلتسين، لم يكن منصفاً للجانب الروسي. وانتهى النزاع بإبطال مفعول ما سبق الاتفاق عليه مع شركة «شل». ولكن إذا حصل في لبنان نزاع من هذا النوع، ليس فقط على شروط ثانوية نسبياً بل جوهرية بكامل معنى الكلمة، فأين لنا ما لروسيا من أسراب «السوخوي» والأساطيل وغيرها لننجح حيث نجح بوتين؟..

من هنا أهمية السؤال حول هوية المسؤول الحقيقي عن صياغة نصوص المراسيم النفطية. ويعود هذا السؤال لسببين. أولهما أن هيئة البترول أنشئت في آذار 2012، أي أسابيع قليلة قبل أن تنهال مراسيم تطبيقية تمتدّ على مئات الصفحات، وتتناول كل أوجه صناعة البترول والغاز دون استثناء، مما يقتضي عملاً ضخماً لمجموعة كبيرة من غير الهواة في هذا المجال. أما السبب الثاني للسؤال، فهو أن ما لا يقل عن نصف أعضاء مجلس إدارة هيئة البترول الستة ليست لديهم المؤهلات اللازمة للقيام بمثل هذا العمل، هذا مع كامل الاحترام والتقدير لصفاتهم ومؤهلاتهم الأخرى.

هذا يعني بتعبير أوضح أن مَن يظهر على المسرح النفطي في بلادنا هم أشخاص مكلفون بمهمة «تسويق» نصوص تشريعية تولّت صياغتها جهات مجهولة وأشخاص ملثّمون ما برحوا يقفون وراء الستار، لا يعرف اللبنانيون لا وجوههم ولا أسماءهم ولا لمصلحة مَن يعملون. وما كان ليكون في الأمر مشكلة، لو أن النصوص المذكورة تتلاءم مع ما هو متعارف عليه في العالم، وتؤمن ولو الحد الأدنى المقبول من المصالح والحقوق الوطنية. أما أن تتضمن هذه النصوص عكس ذلك تماماً، فهذا أمر آخر.

ولعل أغرب ما في الموضوع هو أن بعض الموظفين الرسميين، الذين لم تبخل الدولة عليهم بشيء، هم الذين قبلوا، بدلاً من حسن الأمانة وعرفان الجميل، بالترويج لنص مشروع مرسوم يقوم على تزوير صارخ للقانون 132/2010، ولإقصاء الدولة عن دورها المحوري في استثمار ثرواتها، وحرمانها من حق الملكية على هذه الثروات، عبر تجيير هذا الحق لشركات خاصة، بما في ذلك شركات وهمية!.. هذا ناهيك عن المغالطات والانحرافات الأخرى غير المسبوقة التي كتب عنها بما فيه الكفاية. وقد يكون من باب «جائزة الترضية» أن يتكرم موظفو الدولة أنفسهم ويمنحوها، في مشروع المرسوم المشار اليه، «حق»، نعم حق تعيين مجرد «مراقب» في لجان إدارة الشركات العاملة!..

لا بل إن الأمور لم تقف عند هذا الحد، إذ إن الترويج لإقحام هذه النصوص المخجلة في صلب التشريع البترولي رافقته حملات تضليل واسعة، منها الادعاء في كل المناسبات أن سياسة لبنان البترولية مستوحاة من «النموذج النرويجي»، في حين أن ما حصل هو بعكس ذلك من الألف الى الياء. مما حمل كاتب هذه السطور للتدقيق عن كثب في الموضوع وإرسال كتاب مفتوح الى سفير النرويج في بيروت لطلب رأيه، وتم نشر هذا الكتاب في جريدة «السفير» تاريخ 23 تموز 2015. وكان جواب سعادة السفير آنذاك سفاين آس أن للنرويج تجارب بترولية عدة، لا نموذج معيناً، وأن كل بلد تتعاون معه في هذا المجال يختار النهج الذي يحلو له. وعندها كفّ المعنيون في لبنان عن رفع راية «النموذج النرويجي». إلا أن هذا لم يمنعهم من العودة لحملة التطبيل والتزمير لضرورة تسريع إقرار المراسيم العالقة، بحجة مقاومة الخطر الصهيوني. وكأنه لا يكفينا الخطأ الذي أوقعنا في النزاع القائم مع عدونا في الجنوب، كي نقع في خطأ اتفاقيات ملغومة تفرض على لبنان التزامات لا يقبل بها أي بلد آخر، ولمدة لا تقل عن أربعة عقود.

لذلك لا بد من توجيه كلمة تقدير وإعجاب للرئيس تمام سلام وغيره من المسؤولين، لما أبدوه من حكمة وهدوء أعصاب في وجه الضغوط التي تمارس والأصوات التي تتعالى للمطالبة بقبول شروط استثمار لا يوجد أسوأ منها في العالم، سواء من حيث حقوق السيادة على الثروات الطبيعية، أو من حيث الفوائد المالية والاقتصادية المرجوّة. خاصة وأن بعض أصحاب هذه الأصوات لا يدركون تماماً عما يتكلمون، وهذه مصيبة. اما البعض الآخر فيعرف ويدرك العواقب، وعندها تكون المصيبة أكبر.

لذلك كله، فإن مجرد المنطق والحس السليم يستلزمان، القيام بأقصى السرعة: أولاً، تصحيح وإعادة صياغة بعض مواد مشاريع المراسيم العالقة، ثانياً، إنشاء شركة بترول وغاز وطنية مختلطة، من القطاعين العام والخاص، مع تأمين مساهمة خاصة من البنك المركزي، وذلك في موازاة الاستمرار في الجهود اللازمة التي يعود للرئيس نبيه بري فضل اتخاذ زمام المبادرة فيها، بغية منع إسرائيل من نهب مياهنا ونفطنا.