قبل نحو ثلاثين سنة، وتحديداً في ربيع عام 1989 كان قائد الجيش الجنرال ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية في لبنان، وكانت الحكومة المدنية برئاسة الدكتور سليم الحص. كان الرئيس الأسبق الرئيس أمين الجميل قد أنهى ولايته وغادر القصر الجمهوري في بعبدا إلى دارته في بكفيا، ولم يكن مجلس النواب قد انتخب رئيساً جديداً ليخلفه في الموعد الدستوري المحدد، لأسباب عدة أولها، وأهمها، أن معظم النواب في ذلك الزمن كانوا «منتشرين» بين الدول الأوروبية والعربية بسبب النزاعات والانقسامات السياسية، من جهة، والحرب التي أعلنها الجنرال عون على القوات العسكرية السورية التي كانت تسيطر على لبنان، من جهة أخرى.
كان الرئيس الجميل قد ارتكب خطيئة دستورية بتعيينه قائد الجيش الجنرال عون رئيساً لحكومة عسكرية، لأن حكومة الرئيس الحص كانت موجودة بثقة مجلس النواب، وحسب العرف الدستوري والوطني فإنها حكومة شرعية مؤتمنة على إدارة شؤون البلاد حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية كان قد تعثّر انتخابه في الموعد الدستوري المحدد.
يتذكر أقطاب السياسة اللبنانية في تلك المرحلة مدى الاستياء وخيبة الأمل (الوطنية) التي خلفها تعيين حكومة عسكرية بوجود حكومة مدنية حائزة الثقة، وكان الرئيس أمين الجميل قد اتخذ ذلك القرار من باب الاطمئنان إلى أن قرار الرئاسة اللبنانية الأولى يبقى لرئيس ماروني مع وجود رئيس حكومة سني في السرايا.
ولعل الرئيس الجميل عاد في ذلك الوقت إلى سابقة (دستورية) مماثلة حصلت في 18 أيلول (سبتمبر) من عام 1958 ليلة استقالة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري تحت ضغط ثورة شعبية سلمية قادها أركان «الجبهة الاشتراكية الوطنية» برئاسة كمال جنبلاط، وعضوية أقطاب عدة، منهم كميل شمعون، وإميل البستاني، وريمون وبيار إده، وحميد فرنجية، وأنور الخطيب، وغسان تويني، وعبدالله الحاج. فمع انبلاج فجر ذلك اليوم، عين الرئيس الشيخ بشارة قائد الجيش، الجنرال فؤاد شهاب رئيساً لحكومة مدنية مصغرة ضمت وزراء يمثلون الطوائف اللبنانية، ثم قدم الرئيس الخوري استقالته، مطمئناً إلى أنه سلّم الأمانة إلى يد أمينة على الدستور اللبناني والدولة اللبنانية.
أما لماذا عيّن الرئيس الخوري قائد الجيش الجنرال شهاب رئيساً لحكومة مدنية موقتة فلأن الرئيس المستقيل كان عرض رئاسة الوزارة على ثلاثة أقطاب سياسيين من السنّة (صائب سلام، عبدالله اليافي وسامي الصلح) لكنهم اعتذروا، تاركين مكتب الرئاسة الأولى موقتاً لقائد الجيش الماروني الجنرال شهاب.
تلك المبادرة الوطنية التاريخية التي كرّست تقليداً لبنانياً مثالياً بالحفاظ على «الديموقراطية» اللبنانية، المتصالحة على تقاسم المناصب الرسمية العليا، تزعزعت خلال سنوات الحرب (الأهلية) ولم تستعد توازنها إلى حد ما، إلا بعد إقرار «اتفاق الطائف» الذي ارتقى إلى درجة «دستور»، وقد ارتضى به أقطاب الطوائف المغبونة (نسبياً) حفاظاً، وحرصاً، على تحصين الكيان اللبناني، وطنياً، على قاعدة المساواة (قدر الإمكان) بالحقوق والواجبات.
ومن نعم الله على اللبنانيين أن باب الشهادة من أجل وطن، وشعب مدني، ديموقراطي وقوي، ومقاوم، مفتوح على الدوام أمام من يتقدم للانتظام في عديد الجيش بمواجهة العدو الإسرائيلي.
ولعل باحثاً في أرشيف مجلس النواب اللبناني في مطلع الاستقلال يجد مشروعاً تقدم به الشهيد كمال جنبلاط لإنشاء «حرس وطني» يتطوع تحت إشراف الجيش للتمركز في الجنوب على طول خط الحدود الدولية الفاصلة بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، على أن يكون ذلك السلك مختبراً ومدرسة عسكرية تعد الأجيال اللبنانية للانخراط في وحدة وطنية تعلو قيمها فوق كل الثغرات في هيكل النظام اللبناني.
هو الماضي اللبناني الدائم التواصل من دون انقطاع، بين عهد وعهد، ومن رئيس إلى رئيس. ولعل الجنرال ميشال عون هو صاحب أطول سيرة في تاريخ لبنان (الحديث) المبتدئ من منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حين ترأس حكومة عسكرية من أربعة ضباط وزراء، بعد استقالة ضابطين منها (سني ودرزي)، ومن رئاسة تلك الحكومة التي اتخذت القصر الجمهوري في بعبدا مقراً رسمياً لها، أعلن الرئيس عون الحرب على قوات الردع السورية في لبنان، وسريعاً عمّ الأوساط العربية والدولية سؤال مدوٍ: من يقف وراء الجنرال عون؟
وجاء الجواب فوراً من الجنرال، وكان جواباً مختصراً وحاسماً في جملة واحدة: «إن الجنرال عون هو الذي يقف وراء الجنرال عون، ومعه غالبية الشعب اللبناني التي تريد الخلاص من الاحتلال السوري».
بعد ثلاثين سنة على ذلك السؤال وجوابه، لا بدّ أنّ هناك من يعيد طرح السؤال عينه في هذه المرحلة: «من يقف وراء رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال ميشال عون؟».
لكن، إذا صحّ السؤال عينه، هل يصحّ الجواب عينه الذي جاء قبل ثلاثين سنة؟ طبعاً، الجواب لا. فالجنرال الذي كان رئيس حكومة عسكرية موقتة من أربعة ضباط في قصر بعبدا، صار رئيس الجمهورية المنتخب بشبه إجماع من مجلس النواب.
ولكن، أيضاً، سؤال: هل خرج «الاحتلال السوري» من لبنان؟ الجواب: خرج، لكن هناك من ينوب عنه، ليس بالاتجاه العدائي الذي كان قبل ثلاثين سنة، إنما بالاتجاه الإيجابي نحو الرئيس عون.
أما نحو لبنان الدولة، والكيان، والجمهورية، فإن نظام دمشق لا يعترف للبنان باستقلال، ولا بسيادة، ولا بحرية قرار وطني، أو عربي قومي.
هي خواطر تغلب عليها العواطف وأمنيات الأحلام، لكن الوضع اللبناني الراهن بعد مضي ثلاثة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة جديدة لا يوحي بالوصول إلى تسوية في وقت قريب، والأسباب كثيرة، ومتداخلة، لبنانياً، وإقليمياً، خصوصاً على المسار الجديد بين قصر بعبدا ودمشق، ففي اليوم السابع لانتخاب الرئيس عون حلّ النظام في قصر بعبدا ممثلاً بوزير شؤون الرئاسة للتهنئة، ولم تمض ساعات قليلة حتى حلّ النظام الإيراني ممثلاً بوزير الخارجية.
وإمعاناً بالتحدي لمجمل مكونات الشعب اللبناني، حرص المندوب السوري على إعلان مضمون رسالة التهنئة التي نقلها إلى الرئيس ميشال عون «كما للشعب اللبناني الشقيق على انتخاب سيادته مع هذا العهد الجديد الذي نتمنى أن يكون فيه الخير والاستقرار والأمن للبلد الشقيق لبنان، والذي يعكس استقرار المنطقة، واستقرارنا، حتى في سورية.
وإذ غادر الوزير السوري عائداً إلى دمشق، ظهر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رئيساً لوفد سياسي اقتصادي إيراني كبير رافقه إلى قصر بعبدا، ولا حاجة إلى إعادة نشر عبارات التمجيد للبنان على دوريه الإقليمي والدولي.
أن تكون إيران والنظام السوري وراء الرئيس الجنرال عون، فالمسألة فيها نظر، وسؤال صعب: مقابل ماذا؟
وتزداد الصعوبة إذا لم تنجح مساعي تسهيل تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري… ثم تتفاقم إذا ذهبت الرئاسة الأولى باتجاه تكليف رئيس آخر تشكيل حكومة يتولى صوغ بيانها الوزيران جبران باسيل وسليم جريصاتي.
لا يُحسد اللبنانيون على حالهم في هذا الصيف مع أزمة الاقتصاد، والسياحة، والكهرباء، والركود، والإفلاس المتمادي في أسواق المدن وفي جميع المناطق اللبنانية، حيث كانت مهرجاناتها الصيفية ناجحة على قاعدة «جحا وأهل بيته عرس». ولولا قوافل المغتربين الآتين من دول الخليج العربية، ومن مختلف القارات البعيدة لكانت المؤسسات السياحية عاجزة عن تسديد أجور طواقم خدماتها مع عجزها عن تأمين أرقام إيجاراتها.
وإلى من يتوجه اللبنانيون إذا كان مجلس النواب بعديده (128 نائباً) لا يفرز كتلة معارضة تتطوع للدفاع عن حقوق ملايين اللبنانيين الفقراء، فاقدين الرجاء بتحسن الأوضاع المعيشية وقد ضاقت في وجوههم سبل الرزق كفاف يومهم؟!
في الدول الديموقراطية (الأوروبية والأميركية طبعاً) هناك دائماً كتلة نيابية تقوم بدور حكومة المعارضة في مواجهة حكومة السلطة، فمن سيتطوع من النواب اللبنانيين لتشكيل «حكومة معارضة» تواجه الحكومة التي قد تولد وأولى مهماتها تدبيج بيان وزاري من «حواضر البيت» التي تزخر بها الأقلام على الورق، والحروف على «الإنترنت»!