«داعش» يقاتل الجميع، فمن يقاتله؟
لا شك في صدقية «داعش». لا لبس في ما يعلنه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». لا تقية في ما يمارسه حروباً وارتكاباً. وفيٌّ لأصوله الأولى. ينتقي من الإرث الإسلامي ما يناسب معاركه. حروب الردة نموذجه، قتل المرتد عقيدة. قتل الكافر ليس اجتهاداً. الحرب الاستباقية لها ما يشبهها في التاريخ.
وفيٌ «داعش» إلى أصوله الثانية، وتحديداً إلى «القاعدة الأم»، بنت «الوهابية» الأصيلة، قبل تحالفها مع العائلة المالكة، وقبل نشوء المملكة بنفطها ومن تولاها من السلالة المستمرة. غير أن وفاء «داعش» انقطع مع أنظمة ومنظمات، كانت ترعاه وتدعمه، قبل اجتياحاته الأخيرة. فعندما اشتد ساعده، استقل في حربه عن أنظمة ربّته ودعمته وموّلته وعسكرته ونشرته ووظّفته، حيثما يجب وحيثما يفيد سياسات واستراتيجيات خاصة بالدول وأنظمتها.
وما يقوله «داعش» يفعله، بعد استعداد وتأهيل وتدريب وتنظيم وتحشيد، معتمداً على فئات مهمشة، همشتها الأنظمة الاستبدادية والعولمة الكاسرة والنهب المستدام لثروات الأمم وحقوق الشعوب، ومقدماً نموذجاً مغرياً لمؤمنين، ضاعت أحلامهم في هذه الدنيا المسيَّبة، وباتوا ينتظرون، إما خليفة أو ما يشبهه، لإقامة العدل بالقسطاس وتنفيذ شرع الله في المخالفين والمرتكبين، وأهل الكبائر هم كفار هذه الأمة من أنظمة سياسية، علمانية أو ذات شبهة إسلامية ناقصة، إضافة إلى خوارج عن الملة الإسلامية، من شيعة بتنوع مذاهبها وفرقها وأقليات وأعراق، إلى جانب من ينتسب إلى «السنة» ولا يلتزم بموجباتها، وفق التطبيق الداعشي لها.
استقل «داعش» عما قبله وعما بعده. أنجز مشروع خلافة، بحدود تتسع وتضيق وفق سير المعارك. دق أبواب العاصمة بغداد في العراق، اتخذ الموصل مركزاً مؤقتاً للخلافة. سيطر على مناطق ومحافظات ومدن. دمّر مخزون حضارات لم يستطع الزمن بكل قسوته وصرامته أن يمحوها. قتل من الأبرياء المخالفين له، أضعاف ما وقع في جبهات القتال. هجَّر مدنا وجماعات وشعوبا… هذا الهولاكو، قام بكل ذلك، قبل أن تندلع عاصفة الأحلاف الواهية، وعواصف المواقف الملتبسة. هذيان إعلامي ناشط، ادعاءات كلامية يومية، تصريحات لرؤساء دول عظمى ووسطى وصغرى وهامشية، تؤكد على قتال «داعش». تنشأ أحلاف، أعضاؤها غير متحالفين، بل أعداء في ما بينهم. «داعش» يقاتل الجميع، بلا حساب ولا مناقشة، لأنه يعادي العالم كله، لاختلافه معه، فكراً وديناً وطرق حياة ونظام قيم، من يقاتله وكيف؟
الالتباس في المشهد الميداني يفصح عن حروب كثيرة، بأسلحة تدمير متفوقة ومتزايدة، تتفوق على الحرب المعلنة على «داعش».
منذ ما يقارب الثمانية أشهر و «التحالف الدولي» يشهر أسلحته الجوية ضد «داعش». أنجز حتى الآن آلاف الطلعات. حقق مساعدة حاسمة في فك الحصار عن «كوباني» (عين العرب) وتحرير بعض المناطق. ولكنه لا يخوض حرب انتصار على «داعش». يعترف التحالف وسواه، بأن الحرب الجوية محدودة التأثير. الشواهد على ذلك كثيرة: حرب السوفيات على أفغانستان لم تنجح في «تنظيف» البلاد من حركات المقاومة الإسلامية وحروب القبائل. انتصر المشاة على الطائرات، ثم انتصروا على الدبابات. وحكمت طالبان، إلى أن حدث الاجتياح الثاني، انتقاماً لـ «غزوة نيويورك» في 11 أيلول 2001، وتدمير برجي التجارة في نيويورك. غيّرت أميركا النظام، ولكنها لم تهزم «طالبان». وما تسعى إليه واشنطن، هو تسوية مع «طالبان».
الالتباس في الحرب على «داعش» انها مشروطة بأن لا يستفيد منها خصوم أميركا والغرب، أو الأنظمة التي تستهدفها «داعش» ولا ترضى عنها منظومة دول التحالف الدولي. كنظام المالكي سابقاً في العراق، ونظام الأسد راهنا في سوريا. ولقد أعلنت الولايات المتحدة، بلسان المندوبة الأميركية في مجلس الأمن، أن الحرب على «داعش» يجب ألا تكون لمصلحة النظام. وهذا أمر مشترك تقريباً، بين مجاميع القوى والدول والأحزاب التي تقاتل «داعش». انها تقاتل التنظيم هذا، بشرط أن لا يستفيد «العدو المحلي» من ذلك. فلا حرب حقيقية إذاً، على «داعش»، إنها تحجيم، بانتظار أن تتوفر ظروف جديدة، لحكومات وأنظمة جديدة، ترفع الحرم عن القضاء على «داعش»، إذا استطاعت.
فالولايات المتحدة، سارعت إلى وقف زحف «داعش» عندما اقتربت من منابع النفط في «كردستان» العراقية، حليفة واشنطن. ولكنها ماذا فعلت عندما اجتاح «داعش» مصفاة بيجي الكبرى. هي تدعم حكومة العبادي، بشرط الابتعاد عن إيران. والعراق، في الظرف الواقعي الراهن، بحاجة إلى واشنطن وطهران، زيارة العبادي إلى واشنطن، لم تقنع أوباما. فهو يريد سلاحاً ويريد مزيداً من الطلعات الجوية لمساعدة القوات العراقية في حربها ضد «داعش»، وواشنطن تطالبه بأن يفك ارتباطه مع «القوات غير النظامية» التي تقاتل إلى جانب الجيش، مدعومة ومدربة من قبل الحرس الثوري الإيراني.
هي حرب مشروطة، يستفيد منها «داعش». لذا، ما زال «داعش» يقتحم ويتقدم ويهدد، ولقد ازداد خطره في العراق، بعد ثمانية أشهر من حرب «التحالف» عليه. فأي حرب هي هذه الحرب؟ وأي تحالف هو هذا التحالف؟ وأي ميدان هو هذا الميدان، الذي تنتقي فيه الأسلحة ما يناسبها من المعارك، وليس ما يجب من القتال، لدحر «داعش».
إيران بالمثل، تساعد العراق في قتال «داعش»، بالعتاد والعديد، ولكنها ترفض الاشتراك في معارك، يساهم فيها طيران التحالف، بقصف «داعش». ولأن إيران وواشنطن، برغم الاتفاق النووي القريب، لم يصبحا حليفين، (وما بينهما من الملفات، محيط بالمنطقة بأسرها. وهذا يحتاج إلى زمن وإرادات وحلول)، فإن «داعش» يحقق على هذه «الحرب الكونية» الهشة، اجتياحات جديدة، ويصمد في مواقع قتالية ويتحصن فيها.
الولايات المتحدة تقصف قواتها الجوية جحافل «داعش» في مناطق منتقاة، ويقال بتنسيق خلفي مع قوات النظام في سوريا. ولكن هذه المعارك الجوية، لن تكون لمصلحة النظام. فأميركا تفضل إسقاط النظام السوري، لتنصرف مع الحلفاء إلى قتال «داعش» جدياً، بهدف هزيمته. والمعلومات الأخيرة تفيد أن أميركا ستستمر بقتال «داعش» جواً، وقتال النظام براً، عبر توحيد المعارضات، بما فيها التكفيرية، وتسليحها، بهدف إخراج الأسد من اللعبة نهائياً.
«داعش» يقاتل الجميع بلا قيد أو شرط. «الجميع»، المختلف والمتعادي في ما بينه، يقاتل «داعش» ويحسب قتاله بموازين مختلفة… الاشتباك الأساسي الذي اندلع بين الأنظمة وشعوبها، دفع الطرفين إلى العنف، ثم إلى المزيد من العنف، ثم إلى الحرب. وفي هذا المسار، فاز التطرف الديني التكفيري الذي حذف القوى المدنية الضعيفة، صعّد العنف أكثر من جانب الأنظمة، حتى بلغت إعلان الحرب، بكل الأسلحة، على كل من يعارضها ويقاتلها.
لا ينظر إلى «داعش» خارج هذا المشهد. هو ضد الأنظمة، كل الأنظمة، وفي الوقت نفسه، هو ضد الجماعات التي لا تشبهه. ومن يقاتله، يحب الإفادة التي يجنيها النظام إذا تم إخراج «داعش» من الحلبة.
السعودية تقاتل «داعش» بالنظارات في سوريا، ولا تساهم في القتال في العراق. لا تريد أن «تكافئ» النظامين اللدودين، وتصر على إخراج الأسد بالقوة. وهي لا تقاتل «القاعدة» في اليمن، كي لا يستفيد الحوثيون. عدوها الأول هو «الحوثي» لا «القاعدي».
قطر على المنوال ذاته، مع اختلاف في علاقتها بجبهة «النصرة» التي تدعمها وتؤيدها، وتفتح لها المجال الإعلامي. أما في ليبيا، فقطر ليست إلى جانب «الشرعية» الهشة، بل إلى جانب القوى الإسلامية المتعسكرة، والتي ترتكب عنفا يتناسب والدعم القطري، وهذا ما لا يناسب لا السعودية ولا مصر، اللتين أعلنتا حرباً بلا هوادة ضد كل من يمت إلى «الإخوان المسلمين» بصلة.
تركيا هي الأكثر تورطاً. تريد «داعش» ولكن «داعش» فر منها. وتريد «النصرة» وسواها من التنظيمات ولو كانت تكفيرية. هي لا تريد أن تسمع بأكراد أو بنظام الأسد. «داعش» ليس على حدودها. وعندما بلغ حدودها في كوباني، تفرجت على المعركة.
عمر «داعش» مديد، هكذا يبدو الوضع حتى الآن.
فماذا عن لبنان؟
فريق 14 آذار، ضد «داعش»، ولكنه ضد من يقاتل «داعش» على حدود لبنان. وهذا الفريق، يجهد لتطهير «النصرة» من التكفير، لإلباس «حزب الله» تهمة قتال «الشعب السوري» برمّته. إعلام «14 آذار» ملتبس ولكنه مكشوف.
وفريق «حزب الله»، يقاتل الحركات التكفيرية، دامجاً بين «داعش» و «النصرة» نظرياً، ومؤكداً ذلك عملياً، من خلال الممارسات التي ارتكبها التنظيمان ضد الجنود اللبنانيين الرهائن، بعد معركة عرسال الأولى. غير أن قتال «حزب الله» لـ «داعش» و «النصرة»، ليس لوجه لبنان وحده، وحماية شعبه ومنع التسلل من خلال حدوده… «حزب الله» يقاتل «داعش» و «النصرة» وآخرين كثراً في المعارضة السورية، في معركة مفتوحة، كي لا يسقط النظام.
«داعش»، ليس أولوية عند أحد.
الأنظمة والمنظمات والكيانات كلها، هي أولوية عند «داعش». من هنا، تقدم «داعش» الصعب، أحياناً، والسهل أحياناً أكثر، ومراوحة «أعداء؟» «داعش»، في حروب أخرى.
التكفيريون لم يوحدوا أعداءهم ضدهم، ما زال أمامهم معارك كثيرة…
صورة المنطقة غداً، من يعرفها؟ صعب أن ترسمها من دون «القاعدة» ومن دون «داعش» ومن دون «النصرة» ومن دون الأنظمة القائمة أو الدول المشتركة في الحرب الناقصة.
يبدو أننا لا نزال في البداية.
إنه لمصير بائس. أليس كذلك؟
لعلنا نستحقه.