تمر الصحافة اللبنانية اليوم بأكبر أزمة في تاريخها منذ إقفال جريدة السفير أخيراً الى صدور جريدة “الاتحاد اللبناني” لمدة شهرين فقط، الى أزمة دار الصياد التي تعتبر من أكبر دور الصحافة، وتصدر عنها جريدة الأنوار اليومية، والصياد والشبكة الاسبوعية، وفيروز، والاداري، واستراتيجيا وسواها من المجلات المتخصصة، وكان يعمل فيها نحو 1500 موظف بين إداري ومحرّر ومخرج وعامل مطبوعة ومصورين ورسّامين الخ…
المواطن اللبناني العادي يطرح السؤال: لماذا توقفت هذه الصحف، وما هو السبب أو الأسباب الحقيقية لتوقفها؟
نجيب على هذا السؤال بصراحة وببساطة، فنذكر الأسباب الآتية:
أولاً- مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيل ميديا) تطوّر خطير وأصبح يتفوّق بسرعته في إعطاء المعلومات على التلفزيون والإذاعة والصحيفة.
وهكذا تحوّل القرّاء الى هذا المصدر الإخباري الالكتروني المستجد.
ثانياً- كما هو معروف أنّ هناك موردين للصحافة: مورد الإعلانات ومورد المبيعات، فالمبيعات تقلّصت بشكل مخيف، والمثال على ذلك أنّ مجلة عالمية كانت تبيع 10 ملايين نسخة هبط مبيعها الى 800 ألف نسخة، أمّا بالنسبة الى الإعلانات فبعدما كانت الصحف تحصل على ميزانيات كبيرة أصبح لها فضلات الإعلانات… فالمعلن يذهب الى التلفزيون ثم الراديو، والمواقع الالكترونية، وإعلانات الطرق… والفتات المتبقي للصحف، علماً أنّ عدد الأقنية التلفزيونية يتجاوز الألفين في العالم العربي، أمّا المضاربات على الإعلان فباتت مخيفة، اذ بعدما كانت التلفزيونات في بحبوحة إعلانية، اليوم إعلاناتها تكاد تغطي بصعوبة النفقات.
ثالثاً- المال السياسي: كما هو معروف كانت الصحافة اللبنانية هي صحافة العالم العربي، وكانت كل دولة تساعد صحيفة ما، حتى ان بعض الدول كان لها الفضل في إنشاء بعض الصحف لا بل أكثرها، ولن ندخل في الأسماء.
وفي أزمة الصحافة اللبنانية كثيراً ما يلقون بالمسؤولية على أصحاب المطبوعات، يتساوى في ذلك الذين يعرفون والذين لا يعرفون، فالتهمة جاهزة: “الحق على صاحبها…” وفي هذا الإتهام كثير من الظلم، كي لا أقول الكثير من التجنّي.
أنطلق في كلامي هذا من الحقيقة كما نعيشها نحن في الأسرة الصحافية، أصحاب مطبوعات ومحرّرين على حدّ سواء، أضف الى كوني نقيب الصحافة اللبنانية ومن هذا المنطلق أسأل:
هل صاحب الصحيفة هو الذي اخترع ثورة التكنولوجيا التي أثرت تأثيراً كبيراً وسلبياً على صحافة الورق؟
وهل صاحب المطبوعة هو الذي يتسبّب بإقبال الناس على تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي على حساب الصحيفة؟ وبالتالي هل هو وراء تراجع المبيع؟
وهل هو وراء تقلّص الواردات الإعلانية الى الحدود الدنيا؟
وهل هو وراء التطوّرات السياسية التي أسفرت عن تراجع المال السياسي الى حدود الصفر؟!.
قبل أشهر معدودة، كان يصدر في لبنان 11 صحيفة سياسية من أصل 110 امتيازات صحافية سياسية بعد توقّف 59 صحيفة يومية و51 مجلة أسبوعية سياسية.
وأخيراً، تقلّص العدد الى عشر بتوقف “السفير”، ثم الى تسع بعد توقف “الاتحاد اللبناني” للمرحوم مصطفى ناصر التي لم تقوَ على الاستمرار أكثر من شهرين، واليوم الى ثماني صحف بعد قرار دار الصياد التوقّف عن الصدور وبالتالي غياب “الأنوار”.
كان وزير الإعلام السابق رمزي جريج تقدّم بطرح يقوم على مساعدة محدودة للصحف تُـمنح على قاعدة كميّة ما يُطبع من الصحيفة يومياً.
وكان رأينا ولا يزال عدم الدخول في هذه اللعبة، فالمقترح الأنجع في نظرنا هو إسهام مالي فعّال يساعد الصحف في معايشة الأزمة وليس تجاوزها، وقاعدته تخصيص مبلغ سنوي مقطوع قيمته 500 ألف دولار أميركي لليومية و250 ألف دولار أميركي للمجلات السياسية الثلاث – أربع التي تصدر!
ولنعترف أنّ توقّف الصحف ليس جديداً، وبعضها توقّف من قبل استفحال الأزمة المالية، فعندما توفي النقيب المرحوم رياض طه ماتت صحيفتاه: يومية “الكفاح العربي” وأسبوعية “الأحد”.
وعندما توفي النقيب المرحوم عفيف الطيبي توقفت “اليوم”.
أمّا النقيب المرحوم محمد البعلبكي فتوقفت صحيفته “صدى لبنان” قبل عقود من وفاته وخلال 33 سنة لم يستطع أن يصدرها.
وبعدما توفي المرحوم نسيب المتني ومن بعده شقيقه المرحوم توفيق المتني توقفت صحيفتا “تلغراف بيروت” و”الطيّار”.
وإثر وفاة النقيب المرحوم ملحم كرم توقفت “البيرق” و”الحوادث” و”لا ريڤي دي ليبان” وسواها من مطبوعات دار ألف ليلة وليلة.
وهكذا دواليك.
ولكن اليوم يجري تحميل صاحب المطبوعة المسؤولية وكأنّ هناك من يسعى الى دق إسفين بين أبناء المهنة، ويفوت هؤلاء أنّ الصحافي يبقى صحافياً سواء أكان صاحب المطبوعة أم محرراً صحافياً هو جزء أساس في عملية إصدارها، كما يفوتهم أنّ المجرم الذي استهدف المرحوم الشهيد جبران تويني استهدفه لما يكتبه وليس كونه صاحب “النهار”، واستهداف الشهيد سمير قصير بسبب ما يكتب وليس لأنه محرر في “النهار” ذاتها.
واليوم يذكّرون بـ”أيام الخير” وازدهار الصحافة اللبنانية، ويفوتهم أنّ 90% من الصحف اللبنانية توقفت عن الصدور في تلك الأيام، فلم يبقَ من الـ110 صحف سوى عشر! كما أسلفنا… ناهيك بالـ2000 رخصة لمطبوعات غير سياسية لا يصدر سوى أقل من نصفها.
منذ البداية، أي منذ نشأة الصحافة اللبنانية، كان مَن ينشئ صحيفة يدرك سلفاً أنّه مقدم على مغامرة.
حتى نقابة الصحافة، وهي الهيئة التي تمثّل المهنة والمهنيين، كانت تتقاضى مخصصاً سنوياً من وزارة الإعلام مقداره 500 مليون ليرة سنوياً، فهبط الى 280 مليوناً! وهو مبلغ غايته مد يد المساعدة المتواضعة الى صاحب صحيفة أو محرّر صحافي ضاقت بهما سُبل الحياة.
في أي حال، ان الأزمة قائمة، وأنا أتحدّث هنا ليس دفاعاً عن أصحاب الصحف كوني صاحب مؤسّسة ودار صحافية تصدر صحيفة يومية وسواها أسبوعية وغيرهما من الصحف المتخصصة، إنما أتحدّث من منطلق وضع النقط على الحروف، وبمسؤولية كاملة، وبهذه المسؤولية نأمل أن يتوصّل معالي الوزير ملحم رياشي الى نتيجة ملموسة في اللقاء الذي يعقده اليوم في وزارة الإعلام لعرض واقع حال الصحافة اللبنانية.
ونأمل في المقابل أن تتوقّف الحملات المغرضة على أصحاب الصحف، وليت أصحاب التهم الجاهزة يدلّوننا على الرأسماليين الجشعين الذين يصدرون الصحف اللبنانية.
فصحافتنا لا يمكنها أن تربح من الإعلان والمبيع حتى عندما كانت في عزّ ازدهارها، زميلنا الكبير الراحل المرحوم غسان تويني هل كان يجني ثروة من “النهار”؟ ألم تكن هذه الصحيفة تقع في الخسائر بالرغم من أنّها كانت تحصل على قدر كبير من الإعلانات التجارية، أضف الى أنّها كانت الأكثر مبيعاً… فهل كانت تربح؟
بالله عليكم، ونكرّر: دلّونا على الرأسمالي، الجشع، الذي يأكل مجهود الصحافيين ويستهين بعرق جباههم ويخطف منهم قوتهم وقوت أبنائهم؟!.
ولا بدّ من الإشارة أخيراً الى أنّ الذين أصدروا صحفاً وكانوا من الأثرياء هم قلّة: المرحوم جورج ابو عضل وهي “الاسبوع العربي” متوقفة في نسخة الورق، والمرحوم كمال جنبلاط ونجله الوزير وليد الذي توقفت صحيفته “الأنباء” والمرحوم سليم اللوزي الذي توقفت “حوادثه” بعد وفاته لتنتقل الى النقيب المرحوم ملحم كرم الذي (كما قلنا آنفاً) توقفت مطبوعاته كافة بما فيها “الحوادث”.
عوني الكعكي