IMLebanon

من المسؤول عن انهيار الدولة في العالم العربي؟

نشرت مجلة «نيويورك تايمز» أخيراً تحقيقاً استقصائياً بعنوان: «كيف تفكك العالم العربي؟»، متبعة في جزء من إجابتها على السؤال منهجاً سهلاً في الحصول على انطباعات خمسة نشطاء من جيل الوسط الذين عايشوا الحراك المجتمعي في بلدانهم على مدار الأربعين سنة الماضية. ولم يجتهد كاتب التحقيق سكوت أندرسون، على ما يبدو، في البحث عن الجذور الحقيقية للانهيار في عدد من الدول العربية بالشكل الذي نراه الآن. جاءت الشهادات من مصر وليبيا والعراق وسورية. واختيار مصر انطلق من أنها أصبحت وفقاً لمنطق أندرسون مثل سورية التي شُرد نصف سكانها في بلاد الدنيا، ودُمرت بنيتها التحتية وتقطعت أراضيها في صراع دولي وإقليمي وديني بين طوائف يصعُب أن تلتقي على مصلحة هذا الشعب المنكوب. فالاستدلال هنا بعيد من الموضوعية، إذ إن جذور الانهيار مرتبطة بظروف تاريخية تتداخل فيها متغيرات كثيرة من بينها، أولاً: أن الدولة في العالم العربي عقب الاستقلال أُجبرت على مجموعة من الحروب لفرض شروط الأمر الواقع وفقاً لمنطق القوة في النظام الدولي، أبرزها كانت حرب 1948 التي قام بها العرب كرد فعل على نشأة دولة مصطنعة على أراضيهم ما زالت تداعياتها تؤثر سلباً حتى الآن في مجتمعاتهم وفي علاقات القوى وموازينها في ما بينها وبين العالم الخارجي التي تترجم من فترة إلى أخرى إلى حروب تهدد سيادة الدولة الوطنية واستقلالها. وأدى التأثير السياسي والمعنوي للدولة المصرية إلى اضطلاعها بمعظم هذه الحروب. فبمجرد تحركها كدولة ذات سيادة بإعلانها تأميم قناة السويس عام 1956 فوجئت مصر بعدوان جديد على مدن القناة تزعَّمته كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، ثم تلت ذلك النكسة الكبرى العربية في عام 1967 باحتلال جزء كبير من أراضي العرب. واستمر هذا الوضع في التدهور إلى أن قامت حرب 1973 التي جاءت بنتائج إيجابية بوقف هذا الشكل من الاعتداء على الدولة ككيان في العالم العربي بالتمهيد لتحرير الجزء الأكبر من الأراضي التي احتُلت متمثلة في شبه جزيرة سيناء. فهذه الحروب الأربع، كان قيامها للدفاع عن مفهوم الدولة بجغرافيتها في وجه دولة محتلة مدعومة من الدول الكبرى في ذلك الوقت. ثانياً: مع أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي ساهم حدثان رئيسان بطرق مختلفة في عملية الانهيار التي طاولت عدداً من الدول العربية. الأول منها تمثَّل في الحرب الأفغانية السوفياتية والتي تمَّ فيها توظيف الإسلام السياسي من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية ليكون ذراعاً غير مباشرة لمحاربة الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت على ضوء الحرب الباردة. وبصرف النظر عن إدراك الأميركيين للخطورة المستقبلية للإسلام الجهادي على مجتمعاتهم بعد ذلك أو عدم إدراكهم، إلا أن هذا الدعم حتى من قِبَل بعض الدول العربية والإسلامية كان الخطأ الاستراتيجي الأكبر الذي وقعت فيه هذه الدول، لكونها ساعدت من سوف يعود ويساهم في تدمير مجتمعاتها من طريق الأفكار الراديكالية والجهادية. وهو ما حدث بالفعل في مجتمعات كمصر في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته وفي عدد من الدول العربية الأخرى. والخطورة في هذا المتغير أنه ما زال يُستخدَم من قِبَل هذه الدول لتحقيق مكاسب سياسية. ومن ذلك حالة تنظيم «داعش» الذي توجد عليه علامات استفهام كثيرة، حول من أوجده بهذا الشكل المتوحش، هل هي الأيديولوجية الدينية فقط أم الخواء المؤسساتي للدولة أم أطراف لها مصالح في ذلك؟ أما المتغير الثاني فيتمثل في قيام الحرب العراقية الإيرانية والتي استنزفت العراق كدولة بترولية غنية وعدد من الدول العربية الأخرى تحت ذريعة محاربة الثورة الإسلامية. هذه الحرب افتقدت الرشادة والعقلانية، فخرج الكل منها خاسراً مادياً وبشرياً، ولكن الخسارة الأكبر كانت في انعكاس ذلك على نظام الحكم العراقي الذي خرج من طور الرشادة إلى نرجسية الزعامة. ولمَ لا، وهو المدعوم عربياً وأميركياً؟ ومن ثم كانت مغامرته بغزو الكويت في 1990 تدخل في نطاق العبث واللامعقول في منطق السياسة التي دائماً ما تميل إلى العقلانية، بتذويبها في الأراضي العراقية على رغم أنها دولة عربية صاحبة سيادة، ويعتبر هذا الحدث البداية الحقيقية لظهور العرض الحقيقي لبداية الانهيار، ليس فقط للنظام الإقليمي العربي وإنما لشكل الدولة في إقليمه، خصوصاً في المراحل اللاحقة التي تشبث فيها صدام حسين بأوهام الزعامة وليحاصر العراق عشر سنوات ثم يُحتَل العراق بعد ذلك على يد الأميركيين على رغم أنه كانت هناك فرص كثيرة للخروج من هذا الفخ الذي وقع فيه النظام العراقي. فمنذ 2003 لم يعد العراق هو العراق، وباتت تأكله حروب أهلية وتخرج من تحت أنقاضه التنظيمات المتشددة، ثم تأتي إيران وتبسط نفوذها بأيديولوجياتها على كل هذه الأرض المحروقة من جراء ما فعله هذا الغزو.

ثالثاً: غياب الديموقراطية وعدم وجود آلية لانتقال السلطة في النظم الجمهورية، ما أدى إلى ظواهر سلبية عدة أثَّرت في كيان الدولة، أبرزها إطالة مدة الحكم، وتسخير كل مقومات الدولة للتمهيد لتوريث ذلك الحكم. وهو ما جاء على حساب بناء المؤسسات وإحداث نهضة وتنمية. حدث ذلك في ليبيا واليمن، وهما الآن تتأرجحان ما بين اللادولة، وحروب القبائل، والأيديولوجيات الدينية. فجذور عملية انهيار الدولة الوطنية لم تكن مسؤولية متغير واحد وإنما هي عملية متشعبة تأتي من ضمنها المطامع والمصالح التي حركتها القوى الكبرى في المنطقة، فاستخدمت من أجل تحقيق ذلك حكام هذه النظم، والإسلام السياسي، والتدخل بالاحتلال كما حدث في العراق، أو التدخل بحلف الأطلسي، كما جرى في ليبيا لإطاحة معمر القذافي. المهم هو أن تبقى مصالح القوى الكبرى متحققة حتى لو كان على جسد هذه المجتمعات العربية. وهكذا أصبح استمرار الدولة الوطنية في إطار هذه التحديات مبنياً على ضرورة التعلم من هذا الماضي بمتغيراته التي ساعدت على انهيار عدد من كياناتها بالشكل الموجود في كل من العراق وسورية وليبيا واليمن.