من كان يتصور وصول لبنان إلى حالته الراهنة بعد ربع قرن من طي صفحة الحرب الأهلية؟ من يصدق أن هذا الشعب المثقف والنشيط والطموح والمقتحم لكل الآفاق بات عاجزا عن التخلص من نفايات أبنائه وتوفير الكهرباء لهم، وعاجزا عن تسيير مؤسساته الدستورية وتقاليده الوطنية ونظامه الديمقراطي؟! من كان يتصور؟
من المسؤول، ترى، عن هذا الفشل؟ الطاقم السياسي برمته، يقول البعض. والدليل هو أن النواب والوزراء المنتمين إلى كتل مختلفة وطنيا وسياسيا، يجلسون معا في المجلس النيابي ولجانه وفي مجلس الوزراء، تحت شعار «الوفاق الوطني» أو «المصلحة الوطنية»، ليؤجلوا الحلول، ودون أن يتخلوا عن خصوماتهم ومواقفهم الوطنية والسياسية المتباينة مما حال دون انتخاب رئيس للجمهورية، وسن قانون جديد للانتخابات النيابية ودون تعيين الموظفين في المراكز الإدارية والعسكرية والأمنية المهمة؟!
إنما تحميل «الطقم السياسي» لوحده مسؤولية إيصال لبنان إلى ما وصل إليه، ليس دقيقا بل إنه ظالم لسياسيين كثر منهم من برهنوا عن وطنية صافية – أي بعيدة عن الطائفية والمذهبية والمصلحة الشخصية أو الحزبية والتبعية للخارج – وقاموا بواجباتهم وحققوا نجاحات ملموسة فيما كلفوا به. ويقضي الحق والإنصاف بعدم شملهم في عداد المسؤولين عن حالة الفشل الإداري والجمود السياسي والضياع الوطني.
إنما هناك بين القوى السياسية والحزبية ذات الصبغة الطائفية أو المذهبية الطاغية التي تلقي بثقلها على الحكم والإدارة وتشل تطبيق الدستور وعمل المؤسسات وتطبيق الميثاق الوطني، من يتحمل مسؤولية الفشل أكثر من غيره. ولا نتردد في الإشارة إليها وتسميتها: وفي مقدمها «حزب الله» و«الجنرال عون» وتياره.
ذلك أن وجود حزب سياسي عقائدي مسلح بالصواريخ ومعلن الولاء لنظام دولة خارجية، ومشارك في الحرب الأهلية السورية، من شأنه تعطيل سلطة الدولة على أراضيها ونقض مبدأ النأي بالنفس عن التدخل في النزاعات العربية. أما الشعارات التي يخوض الجنرال عون معركته الرئاسية تحتها (ونعني «الرئيس الماروني القوي» و«حق المسيحيين في أن يختاروا رئيس الدولة ونوابهم وحصتهم من الوظائف الكبرى»)، بالإضافة إلى نظرية «حلف الأقليات في المنطقة (ويقصد المسيحيين والشيعة والعلويين وغيرهم) لمواجهة داعش و(القاعدة) والإرهابيين»… إنما هي شعارات ومواقف لا تنقض الميثاق الوطني اللبناني، ولا اتفاق الطائف ولا الدستور فحسب، بل تشل أي نوع من الديمقراطية بل أي نوع من الحكم في لبنان أو أي دولة في العالم.
غير أن المأساة الحقيقية في الواقع السياسي اللبناني الراهن، هي أن مطلق هذه الشعارات نجح مرتين في استقطاب أكثرية ناخبي جبل لبنان المسيحيين، وأدخل معه إلى المجلس النيابي كتلة ذات حجم تمكنه، مع نواب حزب الله، من تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية وقيام أي حكومة تحكم بأكثرية نيابية كما ينص الدستور، ويقضي النظام الديمقراطي البرلماني.
نعم، كل «الشعوب اللبنانية» – كما يسمي البعض طوائفه – مسؤولة عن شلل الحكم وتعطيل الدستور وعجز الحكومة القائمة حاليا، بل أي حكومة، عن منع تدهور لبنان نحو هاوية مجهولة القرار. ولكن بعض الأحزاب والزعامات الطائفية تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية. ونسمي حزب الله والجنرال عون الذي بات شعاره الحقيقي: «أنا أو الطوفان».
ترى ماذا سيحل بلبنان لو أن كل طائفة من طوائفه العشرين راحت تقلد الجنرال عون، وتطالب بحقها في اختيار ممثليها في الحكم وحصتها من موظفي الدولة ونصيبها من الكهرباء، ومن الغاز في قعر الساحل البحري ولم لا: فتسييس وتطييف حتى مطامر النفايات؟ أوليس ذلك أقصر طريق لتمزيق هذا الوطن الأخضر الجميل، الذي كان واحة راحة وهناءة العيش، بل «رسالة للعالم» كما وصفه البابا يوحنا بولس؟
الحرب الأهلية في سوريا قد تستمر سنوات، كذلك الحرب الدولية – الإقليمية – العربية على الإرهاب المتجلبب بالدين. هذا ما تردده المرجعيات السياسية ومراكز الدراسات الدولية. وليس بسر أن شفاء لبنان من علله السياسية وخروجه من الحلقة المفرغة التي يدور فيها، بات مرتبطا بمآل القتال في سوريا والعراق وربما اليمن وليبيا، فهل هو قادر على العوم في خضم الأزمات التي تحاصره وتشل حكمه، خمس سنوات أخرى، أو ربما أكثر؟!
سؤال يطرح على كل حزب وكل سياسي بل كل مواطن في لبنان. قبل أن يطرح على الدول الإقليمية والكبرى التي تتلاعب بمصيره.