Site icon IMLebanon

مَن يستهدف التقارب المسيحي ؟

لَو أجري استطلاع حول المطلب الأساسي للمسيحيين على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، لكانت الدعوة إلى وحدة الصف المسيحي تصدّرت هذا الاستطلاع من دون منازع. ولكن ما ان بدأت هذه الوحدة تتحقّق حتى راحت الأصوات تتصاعد متخوّفة من احتكار التمثيل المسيحي.

غريب أمر بعض المسيحيين، يريدون الشيء ونقيضه. «أطنان» من المقالات والمواقف التي تدعو العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع إلى التقارب، وتحمّلهما مسؤولية استمرار الانقسام المسيحي، واستطراداً الضعف المسيحي الناتج عن هذا الانقسام، وتلومهما لعدم التمثّل والتشبّه بالقيادات الإسلامية السنية والشيعية والدرزية.

فالمسيحيون عاشوا أكثر من ربع قرن على وَقع الإشكالية نفسها المسمّاة الانقسام المسيحي وكل ما يستتبعها من ضعف في التمثيل، وعدم القدرة على انتزاع الحقوق المسيحية، والدعوات المفتوحة لجعجع وعون من أجل المصالحة والتحالف.

وفي اللحظة التي اقتربَ فيها الرجلان سياسياً، بدأت تتصاعد الأصوات المشكّكة بأهدافهما والمتخوّفة من ضرب التعددية واستبدالها بثنائية، والمحذّرة من استجلابها ردود فعل إسلامية تستدعي اصطفافات مقابلة، وإلى آخر هذه المعزوفة.

وفي الواقع يجب التمييز بين فئتين على هذا المستوى:

فئة الناس التوّاقة إلى وحدة الصف والموقف، والنابع توقها من بُعدين عاطفي وعقلاني، وقد أدّت أحداث السنوات الأخيرة إلى تدعيم هذا التوجّه وتعزيزه نتيجة استفحال الصراع في المنطقة واتخاذه أبعاداً مذهبية في ظل غياب أي تصوّر لانتهاء الأزمة اللبنانية، وبروز حاجة مزدوجة لها طابع الإلحاح: إبعاد شبح الانقسام عن مناطقهم ومؤسساتهم وصروحهم الجامعية والمدرسية، وذلك قطعاً للطريق أمام أي محاولات لنقل الصراعات إلى داخل بيئتهم، والتوافق على تعزيز حضورهم داخل الدولة ومؤسساتها.

وفئة السياسيين التي تعاملت بحذر ورفض ضمني وعلني للتقارب القوّاتي-العوني، وهذا الحذر مفهوم ومبرّر، وعلى القيادتين القواتية والعونية العمل على تبديده، لأنّ لهذه الفئة حساباتها وحيثياتها وحقّها بالوجود السياسي، خصوصاً أنّ هذا التقارب هو بمثابة الزلزال السياسي الذي، في حال تَحوّله إلى تحالف سياسي-انتخابي، يؤدي إلى إقفال الساحة المسيحية. ولكنّ العقل القواتي-العوني لا يعمل، هذه المرة، بسياسة الإقفال، وهو حريص على عدم استبعاد أيّ طرف من هذا التفاهم الذي يتّسِع للجميع.

وفي هذا السياق لا بدّ من ملاحظتين:

الملاحظة الأولى، أنّ الأكثرية المسيحية هي مع التقارب القواتي-العوني الذي تريده مدخلاً إلى ترتيب البيت المسيحي بما لا يتناقض إطلاقاً مع ميثاق العيش المشترك مع المسلمين الذي يقوم على شراكة حقيقية بين القوى التمثيلية.

والملاحظة الثانية، أنّ المناخ السياسي والإعلامي الرافض للتقارب القواتي-العوني يَنمّ عن أقلية مسيحية قادرة على التحرك والتحريك.

وأمّا في الوقائع فلا شيء يستدعي هذه الحملة على التقارب، إلّا في حال كانت استباقية لمؤدّياته، لأنّ ما تحقق لغاية اليوم يصبّ في مصلحة 14 آذار لا العكس. فـ»إعلان النوايا» يشكّل نسفاً لـ»وثيقة التفاهم» بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، كما أنّ البنود الواردة فيه لا تخرج عن مبادئ 14 آذار، إنما بصياغة هادئة.

ومن ثم فإنّ الدكتور سمير جعجع لم يتعهّد شيئاً للعماد ميشال عون في الموضوع الرئاسي. والكلام عن شروط وضعت لزيارته الرابية ومن ضمنها الموافقة على الاستطلاع يُسيء إلى عون بالدرجة الأولى، كما أنّ القاصي والداني يعلم أن أحداً لا يضع شروطاً على جعجع، بل هو مَن اشترط أن يكون اقتراب عون السياسي من مبادئ «القوات» هو المدخل لاقتراب الأخيرة منه رئاسياً.

وإذا كان البعض يرفض إعطاء جعجع حقه بقدرته على تقريب عون من الحالة السيادية من دون أن يعطيه أيّ تعهّد رئاسي أو عسكري، فهذه مشكلته. وإذا كان البعض يسجّل على جعجع تعليق انتقاداته المباشرة والقوية لعون بأنّه يعطّل الرئاسة والحكومة وغيرهما، فهذا صحيح، ولكن طالما الانتقاد على مدى سنوات وأشهر من الفراغ لم يوصِل إلى نتيجة، فلا بأس من مقاربة هذه الإشكالية بطريقة جديدة، إنما المزايدة على «القوات» بمواجهة عون فهي مُضحكة-مُبكية.

وأمّا لجهة الاستطلاع، فمن الواضح أنّ هناك توجهاً لتضخيم هذه المسألة وتحميلها أكثر ممّا تحتمل. وبمعزل عن الخلفية العونية من وراء الاستطلاع، إنما لا يجوز الاستخفاف بالوعي المسيحي الذي يميّز جداً بين الجانب التمثيلي الضروري، وبين الواقعية السياسية التي تحدّث عنها الوزير سليمان فرنجية ولَو عن غير قصد بقوله «إذا فاز مشروع 14 آذار سيكون الرئيس منه، وإذا ربح مشروع 8 آذار سيكون الرئيس منه»، فيما في الواقع لن ينتصر هذا المشروع ولن يَنهزم ذاك، ولن يكون هناك من رئيس إلّا على قاعدة التقاطع بين المشروعين.

ولمَن لا يعرف بعد، تحوّلت الاستطلاعات في لبنان إلى جزء من عدّة الشغل للأحزاب والشخصيات السياسية، وهذا التطور في محله على غرار ما يحصل في الغرب. فـ»القوات» مُنفردة تجري عشرات الاستطلاعات سنوياً. وبالتالي، إنّ استطلاعاً بالزائد أو بالناقص لن يبدّل شيئاً في جوهر القضايا المطروحة، خصوصاً بعد تأكيد الجميع عدم إلزامية هذه الاستطلاعات.