ليل الخميس الماضي، تعرّضت جبهة «فتح الشام»، وهو الاسم الجديد لـ»جبهة النصرة»، لعملية تصفية لجزء كبير من ابرز قادة صفها الاول، وذلك خلال اجتماعهم في ريف ادلب. بين القتلى كان قائد الجبهة العسكري العام ابن ادلب الملقب بـ»ابو عمر السراقب» وهو كان سابقاً ايضاً امير «النصرة» في ادلب وكان يعرف حينها بلقب «ابو هاجر الحمصي»، وهو من مؤسسي «النصرة» الأهم.
ثلاثة عناصر أساسية تطبع عملية تصفية قادة كبار من جبهة «فتح الشام» بضربة واحدة، وتشكل الخلفية السياسية لها:
العنصر الاول هو انّ هذه العملية تأتي بعد شهرين من اعلان ابو محمد الجولاني فك ارتباط تنظيمه (النصرة) مع «القاعدة»، وبدء مسار تلميع صورتها بوصفها قابلة للتحول عن الاعتدال والبرغماتية السياسية!
العنصر الثاني تمثّل في أنّ «ابو عمر سراقب» كان يمثّل البيئة العسكرية المتشددة داخل «النصرة» واستمر كذلك بعد تغيير اسمها الى «جبهة فتح الشام»، فهو اشتهر بأنه كان شديد البأس والقسوة في تعامله مع الفصائل الأخرى الاسلامية المسلحة داخل المعارضة. وعليه، فإنّ مقتله قد يصح اعتباره أنه يندرج داخل المسعى الجاري بغطاء اقليمي ودولي لتلميع صورة «النصرة» وجعلها مقبولة من اطياف المعارضة الاسلامية في سوريا.
وبالأساس فإنه قد يسهم في تلميع صورتها داخل الغرب كقوة قابلة للتكيّف مع مناخ التسوية في سوريا والتعاطي معها بوصفها الجزء الوازن عسكرياً وسياسياً داخل المعارضة السورية بمقابل النظام، وليس بوصفها من سلالة القاعدة والوجه الآخر لـ«داعش»!
وبهذا المعنى، فإنّ مقتل ابو عمر سراقب يفترض أن يتيح نظرياً فرصة انتاج علاقة اكثر سلاسة بين «النصرة» بنسختها الجديدة تحت مسمّى «جبهة فتح الشام» وبدورها الجديد كجزء من المعارضة السورية وليست كامتداد لـ»القاعدة»، وبين طيف المعارضة الاسلامية السورية المسلحة الاخرى.
وأبعد من ذلك، فإنّ مقتله سيسهم في ان يطوي من تاريخ «النصرة» صفحة ممارساتها الالغائية بحدّ السيف التي كانت مارستها طوال الفترة الاولى من ظهورها، ضد كل الآخر الاسلامي في المعارضة السورية، خصوصاً ضد الفصائل الاسلامية التي تصفها واشنطن وبعض دول اصدقاء الشعب السوري، بأنها معتدلة.
وأقلّه يمكن القول إنّ «النصرة» من دون قائدها العسكري العام «ابو عمر سراقب»، هي فصيل يقدم طمأنينة اكثر للفصائل الاسلامية المسلحة التي تنخرط معها ضمن إطار «جيش الفتح» في جنوب حلب ومنطقة ادلب، الخ.
العنصر الثالث من خلفيات عملية التصفية لشريحة كبيرة من قادة جبهة «فتح الشام»، تقع في أنها تشبه الى حدٍّ بعيد عملية التصفية التي تعرضت لها حركة «احرار الشام» قبل عامين، وادّت الى مقتل مؤسّسها وقائدها العسكري العام واربعين قائداً فيها. حتى الآن لا يوجد تأكيد عن الجهة التي نفذت تصفية قادة اجتماع بلدة «رام حمدان»، ولا حتى عن الطريقة التي جرت بها، هل هي غارة جوية أو بواسطة تفجير عبوة اشتملت على مواد كيماوية؟
ولا تزال هذه العملية تعتبر غامضة، كما هو حال الغموض الذي يلفّ حتى الآن عملية تصفية قادة في «النصرة». وعلى رغم انّ مصادر في جبهة «فتح الشام» اتهمت طائرة من التحالف الدولي بتنفيذها، إلّا أنّ أي جهة لم تتبناها.
من المهم معرفة الجهة التي نفذت عملية أمس الأول ضد «النصرة»، لكي يتم تشخيص هدفها. واذا صدقت المعلومات عن أنّ التحالف الدولي هو الذي نفذها، فهذا يعني واحداً من ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الاول أن تكون واشنطن اختارت توقيت تنفيذها عشية لقاء كيري – لافروف المخصص لمحاولة إنقاذ التفاهم الروسي – الاميركي في سوريا من اعلان موته النهائي.
وهدفها من هذا التوقيت إرسال رسالة حسن نية في أثنائه لموسكو بأنها لا تساير رهانات إقليمية لجهة أنّ «النصرة» بات يمكن بعد تغيير اسمها وفك ارتباطها بـ«القاعدة»، التعامل معها كجزء من المعارضة السورية القابلة لأن تصبح معتدلة او برغماتية. ومعروف في هذا السياق أنّ موسكو ترفض بشدة الرهان على تحوّل «النصرة» فصيلاً مقبولاً دولياً، وتجادل واشنطن بخصوصه.
الاحتمال الثاني يقع في أن يكون التحالف الدولي نفّذ ضربة نقطوية لتصفية رمز البيئة المتشددة داخل «النصرة» تحضيراً لجعلها مقبولة بدورها الجديد تحت مسمّى جبهة «فتح الاسلام».
الإحتمال الثالث وهو تتمة للاحتمال الاول، يتصل بإمكانية أن تكون هذه العملية لها نفس اهداف العملية التي حصلت قبل عامين ضد حركة «احرار الشام». وللمصادفة فإنّ توقيت عملية ليل الخميس ضد أبرز قادة في «النصرة» يأتي في ذكرى إحياء حركة «احرار الشام» لعملية ضرب اجتماع قادتها في بلدة «رام حمدان» قبل عامين.
وكان هدف عملية «رام حمدان» الاساس، هو جعل جبهة «حركة الشام» تتحوّل من اكبر فصيل اسلامي مسلح فوق الميدان السوري الى فصيل محدود التأثير. نجحت العملية بتحقيق هذا الهدف.
والسؤال الآن هو هل عملية تصفية قادة بارزين في جبهة «فتح الشام» قصدت تحقيق الهدف نفسه؟ اي ان يؤدي فقدانها لخيرة قادتها العسكريين، الى تراجع دورها الميداني في سوريا وداخل «جيش الفتح» المعتبر أهم جبهة تحالف للفصائل المسلحة الاسلامية في سوريا.
حتى الآن لم يعرف بعد من هم القادة العسكريون الاساسيون الذين قتلوا مع ابو عمر سراقب خلال قصف مقر اجتماعهم. والمعلومة الوحيدة التي تسرّبت تحدثت عن نجاة ابو مسلم الشامي وهو من مؤسّسي «النصرة». غير انّ حضور الاخير الاجتماع يؤشر الى انّ قادة آخرين من وزنه كانوا يحضرونه ايضاً، وهؤلاء لم تصل أخبار عن نجاتهم او موتهم حتى الآن.
لكنّ مصادر أمنية متقاطعة تؤكد أنّ «النصرة» تَلقّت ضربة امنية بنيوية، وأنّ اشخاصاً أساسيين من البيئة الصلبة من قادتها العسكريين الجدد والمتشددين والتي بناها ابو عمر سراقب خلال العامين الماضيين، قد قتلوا معه. وهؤلاء يعدون بنحو تسعين اميراً عسكرياً تمّ دمجهم في جسم «النصرة» خلال الفترة الاخيرة.
السؤال الأساس في كل عملية قتل سراقب ورفاقه هو هل هدفت هذه الغارة الغامضة الى وضع «النصرة» على طريق التحوّل الى «احرار الشام 2»، بمعنى أن تؤسس هذه الضربة لإنهاء دورها العسكري الوازن داخل المعارضة الاسلامية في الميدان السوري؟ ومن هو المنفذ؟
هل هي اميركا لقاء رسالة حسن نية لموسكو المطلوب منها الاقدام على إجراءات تخفف من فعالية طوق حلب؟ أم أنها ايضاً أميركا التي تريد مساعدة «النصرة» للتخلّص من أورام إرث التشدد الماضي الذي يعتبر ابو عمر سراقب ورفاقه «القادة الجدد» أبرز رموزه؟
أم أنّ الجهة المنفذة بغضّ النظر عن هويتها أرادت عبر تصفية أبرز قادة النصرة بضربة واحدة على نحو يحاكي ما حدث مع حركة «احرار الشام»، إخراج ورقتها العسكرية والسياسية من بازار ابتزاز روسيا والنظام عبر التلويح بأنها تحوّلت جزءاً من توازن الميدان بين الجيش السوري والمعارضة، ولا بد من الاعتراف بها، ولم تعد فرعاً لـ»القاعدة» في الشام؟