IMLebanon

مَن يقتل الرئيس؟

الرئيس مخطوف. الخاطفون معروفون. ذلك أن الخطف جرى في الوضح اللئيم، ولا تزال مفاعيله قائمة. المشكلة أن الجميع متورّط، لكنه ينفي التورّط، غاسلاً يديه من دم هذا الصدّيق. ثمّ إن الجميع موافق على “الأمر الواقع” هذا، بدليل أن النقاش يجري حول مواضيع “ملحّة” و”داهمة” أخرى، لا بدّ من إيجاد حلول لها.

لا أحد ينتفض على هذا “الأمر الواقع”. لا أحد يريد أن يُحرج أحداً. لا أحد يتقدّم بإخبارٍ من الجهات المختصة، لإجراء المقتضى. في المقابل، ربما ترى هذه الجهات المختصة أن المسألة لا تعنيها. على سبيل المثل، القضاء الذي يجب أن يكون أعلى سلطة معنوية في البلاد، ربما يعتبر أن خطف الرئيس ليس من اختصاصه. لكني أريد أن أُخبِر هذا القضاء بالذات، لأنني أحترمه. مهنتي تقتضي مني أن أفعل ذلك علناً، من أجل الحضّ. علماً أن نتيجة الإخبار ستكون على الأرجح مخيِّبة للآمال، إذ قيل لي إن الاختصاص الوظيفي في حالة الخطف هذه، غير قائم.

ثمة مَن يحتجّ على منهج هذا المقال، ويقول لي: على مهل، أيها الكاتب. فبأيّ حقّ، تسدّ المنافذَ أمام القرّاء وتقول من البداية إن النتيجة قد تكون مخيِّبة؟ الاحتجاج مقبول، ومنطقي، وأنا أعتذر عن هذا “الخطأ” المقصود. فقد كان ينبغي لي أن أجزم من البداية، لا أن أرجّح فحسب. النتيجة مخيِّبة بالتأكيد، وليس ثمة أملٌ واحداً في المئة يمكن الركون إليه والمراهنة عليه، لتحرير الرئيس.

لماذا؟ لأن ثمة مَن يضع المسدس على صدغ القضاء.

يجب أن لا نذهب بعيداً، أيها القراء، في التنجيم، ولا في مساءلة العرّافات والعرّافين. زملاؤنا الصحافيون المحنّكون والمحلّلون يمطروننا يومياً بالاحتمالات كلّها، ويقنعوننا بوابلٍ من البراهين والأدلة التي لا تُدحَض حول تداخل العوامل المحلية والإقليمية والدولية، وحول ترابط الوضعين والمصيرين اللبناني والسوري، وعدم تمكن لبنان من النأي بنفسه في هذا الخضمّ. هذا صحيحٌ ودقيقٌ للغاية. أنا نفسي مقتنع بما يكتبونه ويقولونه. لكني سأضيف الفقرة الآتية، على نفقتي الخاصة، ومسؤوليتي الشخصية: خَطَفَ الرئيسَ طوائفُ لبنان وقادته السياسيون وزعماؤه ورؤساء أحزابه وتياراته وكتله المذهبية والنيابية، وهم فعلوا ذلك بالعين المجردة، بما ملكت أيديهم وألسنتهم. وأنا أزيد هذا السبب المخزي للإفصاح عن المكنون، وللحؤول دون ترك سترٍ مخبّاً: نحن اللبنانيين وحدنا خطفنا الرئيس. الآخرون، كلّ الآخرين، تلقّفوا هذا الخطف، بالمكر والذكاء والخبث والخبرة والبزنس، فصار عنق الرئيس في سكاكين أيديهم… من الخليج إلى الخليج، وصولاً إلى دهاليز الأمم وأروقتها الدنيئة.

معقول؟! بل أكثر من معقول. فلو لم نكن نحن الخاطفين، لكان علينا أن نفضح عملية الخطف هذه، وأن نشارك في تحرير المخطوف. بل أن نمنعها. مَن منا يتجاسر أن يقول لخاطف إنكَ متهم؟ مَن منا يقبل باتهام زعيمه، وبفضحه، وبالتمرد عليه، وبالخروج على طاعته؟ لا أحد. بل أكثر: كلما أمعن الزعيم في اختراع الأسباب والذرائع، ازددنا ولعاً به، وإيماناً بما يفعله. أما النتيجة فهي الآتية: بدل أن يكون الزعماء الذين خطفوا الرئيس موضع ازدراء، يصيرون في عيون عبيدهم أيقونات للعبادة والتأليه.

في البلدان الشريفة، يضع القضاء يده على هذا الملفّ الكياني الخطير، ويصدر مذكرات توقيف وجاهية وغيابية في حقّ هؤلاء الذين سبق لي في الافتتاحية ما قبل الأخيرة (31 تشرين الاول)، أن ذكرتهم بالأسماء، واحداً واحداً، وجعلتُ مقالتي تلك بمثابة إخبار علني بفعائلهم المشينة، وفي مقدّمها خطف الرئيس.

لو كنا من أهل الشرف والكرامة، لكان علينا أن نضع حداً لهذا الخطف. لكننا لا نملك ذرةً من شرف وكرامة. أما القضاء، فليخترع لنفسه دوراً، إذا كان القانون لا يسمح له بهذا الدور. وليكن غير قابل بهذا “الأمر الواقع” الذي هو عارٌ كلّه علينا جميعا. يدرك الخارجون على القطعان أن القضاء مربك من أقصاه إلى أقصاه. فالقضاة يعرفون مداخل السياسة ومخارجها، ويعرفون أن لا أمل. هؤلاء الذين وحدهم يجب أن لا يخافوا… نريدهم ألاّ يخافوا. هؤلاء وحدهم يستطيعون أن يفقأوا الدملة… بدل أن يمصّوا رحيقها المقزّز. قد يكون الخوف مسموحاً به لدى الناس العاديين، لكن هل يجب على “الكاهن” أن يخاف؟

لا أطعن في أحد. ولا أستوطي حيط أحد. وخصوصاً جداً، ومن باب أولى، حيط القضاء الذي يحفل برموز لا يزالون مضرب مثل. أنا أستنتج فحسب. والاستنتاج لا يقع تحت طائلة التجريح أو المسؤولية القانونية، لأن نيته صافية، ولأنه حصيلة المعاينة العفوية الآتية: مَن يمتنع عن أداء واجبه، يحاسَب على امتناعه. النوّاب يمتنعون عن انتخاب رئيس، فليتحرّك القضاء لجرّهم جرّاً من رقابهم إلى محراب المجلس، أو لنزع الوكالة عنهم، أو للزجّ بهم في السجون في حال الاعتكاف! ثمّ إن هذا الشعب الأبيّ الكريم يمتنع عن محاسبة وكلائه على خيانتهم للوكالة المعطاة لهم. فليذهب إذاً هذا الشعب ووكلاؤه إلى الجحيم!

لكن على مَن تلقي مزاميركَ يا ابن داوود؟! الطبقة السياسية قلوبها قبورٌ مكلّسة، أما الرأي العام فمخصيّ وصفرٌ على الشمال، وجميعكم يعرف ما هو رأي الشيخ سعيد تقي الدين فيه.

ضماننا سلطة قضائية مقدامة وجريئة. الساهرون على تطبيق القانون، القضاة والمحامون، ومجموعات الضغط الديموقراطي المنظّم، والمدنيون، والعلمانيون، والديموقراطيون، والأحرار، يجب أن يقولوا كلمتهم في مسألة خطف الرئيس. أقصد الكلمة التي تخوّف النوّاب والزعماء وقادة الأحزاب والتيارات والطوائف والمذاهب، وترجّف قلوبهم، وتزلزل الأرض من تحت أقدامهم.

مَن خطف الرئيس؟ نحن الذين خطفنا الرئيس. لكنه لم يعد في أيدينا. ثمة الآن مَن “حرّره” من براثن النواب والزعماء، ومن يد اللبنانيين مطلقاً، وهو يمعن في قتله، بالطرق الشرعية الدينية، وبالوسائط الإقليمية والدولية. فهل يتحرّك الساهرون على تطبيق القانون و… الدستور، لتلقف هذا الإخبار… وإجراء المقتضى؟!

* * *

تتمة لا بدّ منها

نشر “الملحق” في عدده الفائت، بحثاً أولياً غير مسبوق، للأستاذ مازن أكثم سليمان، عن الشعر السوري الراهن في زمن الثورة والخراب. تعقيباً على هذا البحث، وردود الفعل عليه، إيجاباً وسلباً، يهمّني أن ألفت القرّاء المعنيين بهذه المسألة، وخصوصاً السوريين منهم، إلى أن المنشور لا يدّعي أنه يعبّر في الضرورة عن مجمل التجربة الشعرية السورية الراهنة، أو أنه يُصدر أحكاماً نقدية جازمة. إن صاحبه يقدّم قراءته الخاصة التي لا يغيب عن القرّاء أنها تتسم بالتهيّب والإحساس بحجم المسؤولية. وعليه، أقترح على الشعراء والنقاد السوريين الذين يملكون تصورّات نقدية مختلفة، أو مغايرة، أو الذين فات الباحثَ أن يشملهم في دراسته، لاستحالة قيامه بذلك من المرة الأولى، أن يدلوا بدلائهم البحثية بتقديم مقاربات نقدية مماثلة، أو أن يتواصلوا معه، ويرسلوا إليه نصوصهم، وأن يحضّوه، ويشدّوا من أزره، لحمله على مواصلة هذه المهمة الجليلة.

هذا العمل الأولي المهيب، على أهميته، يبقى ناقصاً إن لم يُستكمَل، ويُدعَّم، ويتمّ إمداده بالعناصر والنصوص والمكوّنات الشعرية التي لم يتمكن الباحث من استدراجها إلى بحثه. يهمّني شخصياً، باعتباري محرّضاً على هذه المبادرة، أن ألفت الشعراء والنقاد إلى أن هذه الدراسة التي هي حصيلة جهد فردي بحت، قد أُنجزت في فترة زمنية قصيرة للغاية، ينوء تحت مشقاتها وفخاخها كبار الزهّاد والرهبان من أهل النقد. وأقول للشعراء والنقاد إن من شأن استكمال مقوّمات الدراسة، وتضافر جهودهم في إنجاحها، أن يسدّ ثغرة كبيرة، وأن يساهم في التأريخ الموضوعي لهذه المرحلة المهمة من حياة الشعر السوري، وسطّ الكمّ النوعي الهائل من القصائد المتألقة التي يستحيل على جهد فردي أن يعطيها ما تستحقه من اعتناء.

النقاد والباحثون السوريون كثر، وفي مقدورهم، كلٌّ من جهته، أن يقدّموا مقارباتهم النقدية في هذا الخصوص. الشكر الذي أوجهه إلى الأستاذ مازن أكثم سليمان، يجب أن يكون سبباً إضافياً لاستكمال النقص، وباباً مشرّعاً على المحاولات الجادة الأخرى.