هذا يحدثُ أحياناً. يُطلُّ رجل قوي حاملاً حلماً كبيراً لبلاده. رجل بشرعية مكتملة يمتازُ بقدرة على التقاط رسائل المستقبل. رجل يعتقد أن الانخراط في معركة التقدم هو الضمانة لمصالح الناس وحماية البلاد والإرث والتاريخ. ويتحوَّل الحلمُ ورشة وطنية حين يجتذب الناس، خصوصاً الأجيال الشابة التي تريد التصالح مع العصر وثوراته العلمية والتكنولوجية لتوفير فرص عمل مناسبة وتعليم مفتوح الآفاق. رجل يكسر جدار الخوف لأنه واثق بشعبه وحلمه. هذا حدث في الصين. وحدث في سنغافورة. ويحدث حالياً في السعودية.
تحتفل الصين غداً بيومها الوطني. سيقف الرئيس شي جينبينغ في ساحة تيان انمين في بكين لاستعراض القوات المشاركة. أي في المكان نفسه الذي وقف فيه ماو تسي تونغ قبل سبعين عاماً معلناً قيام جمهورية الصين الشعبية. وكان باستطاعة العالم ألا يلتفتَ إلى الحدث لو كانت الصين قارة تعج بالفقراء وتحلم بالمساعدات أو تتسولها. لكنَّنا نتحدَّث اليوم عن الاقتصاد الثاني في العالم وعن تزايد الاعتقاد أن العصر الصيني يقترب.
يمكن فهم حرص السلطات الصينية على التذكير بأنياب جيشها. ثمة عالم جديد يتشكَّلُ. والصين مشتبكة حالياً في حرب تجارية مع أميركا القوة العظمى الأولى في هذا الكوكب. لكن الأهم من المدرعات والصواريخ هو الإيحاء أن الحلم الصيني مستمر ومعه هذا الهجوم الاقتصادي الواسع في العالم عبر مبادرة «الحزام والطريق». ويرتدي الاحتفال طابعاً استثنائياً أيضاً، لأن الصين تعيش اليوم في ظل «الرجل الأقوى منذ أيام ماو» الذي بات الدستور يسمح له بإقامة مفتوحة على رأس الدولة والحزب الحاكم.
والحقيقة أنه ما كان لتشي أن يتمتَّع بهذه الإطلالة القوية لولا الرجل الغائب. إنه دينغ هسياو بينغ الذي ترك بصماته على مصير بلاده حين أطلق أوسع عملية تحول فتحت طريق الازدهار من دون المساس بصرامة الاستقرار. أخذ دينغ الصين في اتجاه مغاير لوصفات «الربان العظيم». حفظ له ضريحَه لكنَّه اتخذ قرار التصالح مع العصر. قرار الانخراط في العالم والسعي إلى التقدم بعيداً عن الجمود الآيديولوجي والعقاقير القديمة. لم يحرق دينغ «الكتاب الأحمر» لكنَّه قاد بلاده باتجاه اقتصاد السوق والتقدم التكنولوجي والتنافس والانفتاح على الآخرين والإفادة من إنجازاتهم.
لم تكن رحلة دينغ سهلة على الإطلاق. التحولات الكبرى تثير مخاوف كبرى. كان عليه أن يقنع الأكثرية. وأن يواجهَ حراس الهيكل الذين يطالبون ماو بإدارة البلاد من ضريحه. وأن يطمئن الخائفين الذين يعتقدون أن فتح النافذة يعطي الفرصة لرياح الانهيار لا لرياح التغيير. وكان عليه أن يغير عقليات وأدوات. وأن يردَّ على المشككين بإنجازات بحيث تؤكد الأرقام صحة الأحلام، خصوصاً أن التحولات الواسعة تحمل دائماً خطر الأخطاء والانتكاسات التي لا بدَّ من مواجهتها.
لو اكتفى دينغ بممارسة السلطة على قاعدة أن الاستمرار حارس الاستقرار، وأن الانتظار أفضل مستشار لما كانت الصين في موقعها الحالي ولما تمكن شي من مخاطبة العالم غداً من موقع اللاعب الكبير. تحتاج المنعطفات الكبرى إلى قامات استثنائية. دينغ هو الرجل الذي فتح النافذة.
تجربة أخرى رائدة في هذا السياق. كان يمكن أن تكون سنغافورة اليوم مجرد جزيرة صغيرة تتقلَّب على نار الفقر والمشاحنات داخل شعبها متعدد الأعراق. لكن لي كوان يو لم يكن مجرد رئيس للوزراء، بل كان صاحب رؤية ثاقبة وإرادة حديدية. حين تولى منصبه كان في الخامسة والثلاثين. نظر إلى بلاده فرآها فقيرة في شوارعها ومنازلها وعارية من الأمل أيضاً.
أدرك لي كوان يو أن تغيير مصير بلاده يحتاج إلى قرارات صعبة وجريئة ومؤلمة أحياناً. وأن صناعة المصير ورشة يتعذر نجاحها من دون أن يتسلَّلَ حلم التقدم إلى المنازل والمدارس ويوميات المواطنين. وأن التحول يحتاج إلى خطة ومراحل وصبر وتصحيح والاستعانة بكل خبرة يمكن أن تساعد بغض النظر عن هويتها.
أطلق لي كوان يو الورشة. حرب بلا هوادة على الفساد والبيروقراطية. فتح الباب للمستثمرين الأجانب وتوفير بيئة قانونية ملائمة. حرص قاطع على الاستقرار ففي غيابه ينتكس كل شيء. وحين روى لاحقاً قصته، قال: «الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فيه عندما تسلمت الحكم في دولة فقيرة جداً، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم، بنيت المدارس والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم ومن ثم استفدت من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري». انتهت الورشة بسنغافورة مزدهرة ومستقرة. تحولت الجزيرة مركزاً مالياً دولياً متقدماً، وصار مرفأها من المرافئ الأنشط في العالم، وسجل دخل الفرد ارتفاعاً غير عادي.
كان لي كوان يو الرجل الذي فتح النافذة.
بعد التجربتين؛ السنغافورية والصينية، ها نحن نشهد تجربة مميزة في بلد عربي وإسلامي. إنها تجربة التحول الكبير الحاصل في السعودية. لم تعد «رؤية 2030» حلماً يحمله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وحده بتوجيه وتشجيع من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز. صارت حلماً سعودياً شاملاً. لقد تسلل الحلم إلى المنازل والمدارس والجامعات. ومن يزُرْ السعودية اليوم يجد أن لا مبالغة في الحديث عن السعودية الجديدة. وهي سعودية تتمسك بثوابتها ومعتقداتها، لكنها تدرك أهمية الانخراط في معركة التقدم. سعودية واثقة بقدرتها على الانفتاح على العالم والشراكة معه في بناء المستقبل.
أظهرت تجارب الشعوب أن إطلاق الأمل لدى المواطن العادي يشكل ثروة تضاف إلى الثروات الموجودة. الأمل في أن الأيام المقبلة ستكون أفضل لناحية فرص العمل والتعليم والعيش وتفتح القدرات وتمكين المرأة، وهذا ليس بسيطاً في منطقة يفتك اليأسُ بمواطنيها ويشلُّ العجزُ حكوماتِها.
في هذا السياق يمكن قراءة عمليات التحديث والإصلاح وورشة التشريعات والقوانين لتنويع مصادر الدخل والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. جذب الاستثمارات وتوفير البيئة الملائمة قانونياً واقتصادياً. مكافحة الفساد بلا هوادة والتصدي للبيروقراطية. الإفادة من كل ثروات البلاد بما فيها الإمكانات السياحية وفتح الباب لاجتذاب السياح. ورشة صلبة لم تنجح في وقفها أو عرقلتها محاولات الاستهداف التي كان آخرها العدوان على معامل «أرامكو». ولعل استمرار هذه الورشة وفقاً للخطط المعدة سابقاً يشكل أفضل رد على السياسات التي تزداد عداء للسعودية، لشعورها أن هذا البلد في طريقه إلى التحول قوة اقتصادية عصرية تضاعف من الثقل السعودي عربياً وإسلامياً ودولياً.
التحول الحاصل في السعودية لا يعنيها وحدها. نجاحه سيجعله نموذجاً ومحفزاً. محمد بن سلمان هو الرجل الذي فتح النافذة.