قد يكون الكلام المنسوب أخيراً إلى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، على حرب بين إسرائيل و»الحزب»، مختلقاً كلياً أو جزئياً أو مبالغاً فيه. لكن ذلك لا ينفي احتمال أن يكون الشرق الأوسط كلّه مقبلاً على سيناريو عسكري متعدِّد الأطراف. وقد سبق لـ»الحزب» نفسه ولعدد من المحللين أن تحدثوا عن سيناريو من هذا النوع.
في هذه المرحلة، تتشابك مجموعة تعقيدات في الشرق الأوسط. وثمة مَن يتوقع أن تندفع إحدى القوى الأساسية أو قوى عدّة إلى افتعال مواجهة عسكرية لتنفيسها أو للبلوغ منها إلى غايات أخرى. وهذه التعقيدات هي:
1 – الضغط الذي تمارسه إدارة الرئيس دونالد ترامب على إيران، خصوصاً بعد تصنيفها الحرس الثوري، الذي هو جزء من الدولة الإيرانية، منظمة إرهابية. ويقال إنّ ترامب يحتاج إلى بلوغ أقصى درجات الضغط على إيران وتحقيق الهدف المنتظر، وهو الصفقة على الأرجح، ليكون إنجازاً سياسياً كبيراً في العام الذي يخوض فيه معركة التجديد لولاية ثانية.
لكنّ ترامب لن يقوم بعمل عسكري ضد إيران بهدف تغيير النظام. وهذا التأكيد نُقِل في الساعات الأخيرة في واشنطن عن لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، في لقاءٍ عقده مع أعضاءٍ من الجالية الإيرانية في الولايات المتحدة.
في المقابل، يجزم بومبيو بعدم تجديد الإعفاءات للدول التي تمّ استثناؤها من العقوبات سابقاً، وخصوصاً في مسألة الحصول على النفط الإيراني. وهذا يعني أنّ موجة العقوبات التالية، في الأول من أيار المقبل، ستكون أشدّ قساوة في السعي إلى «تجفيف منابع التمويل» وتشديد الخناق الاقتصادي على إيران.
2 – ملامح الأزمة المتصاعدة بين الروس والإيرانيين في سوريا. فالرئيس فلاديمير بوتين يريد استثمار الوقت بكامله، وهو يمتلك الغطاء الإقليمي والدولي الذي يسمح له بتثبيت نفوذه هناك، من خلال العنوان الكبير أي حماية الرئيس بشّار الأسد… ولكن أيضاً: صَون مصالح إسرائيل جنوباً وتركيا شمالاً والولايات المتحدة شرقاً.
وفي المبدأ، يرفض الروس المسَّ بالتحالف الاستراتيجي الذي يربطهم بطهران. فالمحور الإيراني في المنطقة هو نفسه المحور الروسي. ولكن، في التفاصيل، يصطدم الهدف الروسي بطموحات المصالح الإيرانية.
وقد تنفجر الأزمة إذا شعر الإيرانيون بأنهم وصلوا إلى الحائط المسدود وخسروا سوريا، حتى أمام الحليف الروسي، بعدما دفعوا فيها ثمناً غالياً جداً هناك، بالمال والعتاد والرجال.
3 – فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات الأخيرة واستعداده لاتخاذ خطوات دراماتيكية في اتجاه تكريس يهودية الدولة. وحكومة اليمين الإسرائيلية المقبلة ستَطرح على الأرجح إطلاق مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية، في ظرف صعب جداً على المستوى الفلسطيني والعربي.
وإذا رفض الفلسطينيون الانخراط في هذه المفاوضات المختلّة التوازن، ستجد إسرائيل المبرِّر لاتخاذ خطوات من جانب واحد. والأبرز هو ضَم المستوطنات في الضفة الغربية بمباركة أميركية وبالحد الأدنى من الرفض العربي والإسلامي والدولي، بعد قرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وضمّ الجولان.
إذاً، الصورة هي الآتية: يريد ترامب إنهاك طهران لإطلاق المفاوضات معها، لا لضربها عسكرياً.
ويريد نتنياهو استثمار ضعف الفلسطينيين قبل طرح فكرة التفاوض معهم واتخاذ خطوات جديدة في مسار التهويد.
ويريد بوتين تثبيت نفوذه في سوريا والشرق الأوسط من خلال تموضعه على خط التقاطع الأميركي – الإسرائيلي.
ولأنّ إضعاف إيران هو أساساً هدف إسرائيلي، فليس مستبعداً أن تقع مواجهة إسرائيلية – إيرانية أوسع نطاقاً، علماً أنّ الضربات الإسرائيلية لمواقع إيران والقوى الراعية لها في سوريا لم تتوقف خلال الحرب السورية، بموافقة أو سكوت روسي. كما أنّ موسكو هي التي رَعت عملية إبعاد إيران وحلفائها عن خط الحدود في الجولان إلى ما يزيد عن 85 كيلومتراً.
وفي رأي عدد من المحللين أن لا مشكلة لدى الإسرائيليين في أن تبقى إيران لاعباً شرق أوسطياً له هوامش المناورة، على غرار تركيا. ولكنهم يريدون إبعاد الخطر الاستراتيجي الإيراني عن نطاقهم الحيوي. وهذا يعني إبعاده عن سوريا ولبنان وغزة خصوصاً.
ولذلك، بالنسبة إلى الإسرائيليين، ليس حيوياً ضرب الوجود الإيراني في هذه النقاط الثلاث في المطلق، بل تحجيمه. وتحديداً، التخلص من سلاح إيران الاستراتيجي الذي يشكل خطراً على إسرائيل. ولذلك، استهدفت الغارات الإسرائيلية المتلاحقة في سوريا أنواع السلاح والذخائر التي تخشاها إسرائيل، بما فيها تلك التي تُنقَل إلى «حزب الله» في لبنان.
وطبعاً، يشمل ذلك آلاف الصواريخ التي يعلن «الحزب» امتلاكها، والتي يمكن أن يستخدمها الإيرانيون بصفتها ذراعاً متقدمة ضد إسرائيل في أي مواجهة شاملة، علماً أنّ «الحزب» يلتزم أقصى درجات التعقّل في استخدامها.
مَن هي القوة الإقليمية التي لها مصلحة في افتعال مواجهة عسكرية في الشرق الأوسط؟
على الأرجح، قد يجد الجانبان الإيراني والإسرائيلي – كلّ من زاويته- مصلحة في ذلك. والمواجهة قد لا تكون مقصودة لمجرَّد المواجهة، بل لأنها تفتح الباب لمعطيات جديدة أو لتسويات ربما آن أوانها.
إذا اتّسع الشرخ بين روسيا وإيران في سوريا – وهذا مرجّح – فسيجد الإيرانيون أنفسهم مستفردين، وسيضطرون إلى انتهاج أحد خيارين:
إمّا الرضوخ والذهاب مباشرة إلى صفقة مع الولايات المتحدة، بأقل ما يمكن من الخسائر. وإمّا المواجهة المفتوحة، على جبهات عدّة، لعلها تخلط الأوراق وتفرز معطيات جديدة. وفي الحالين، لا يمكن الاستهانة بحجم الخسائر الإيرانية.
وأمّا الإسرائيليون فقد يجدون أنّ الفرصة سانحة لتسديد الضربة الآن، فيما كل المؤشرات الإقليمية والدولية تصبّ في مصلحتهم، وفيما العرب غارقون في نزاعاتهم وهزائمهم الداخلية.
وسواء عمد الإيرانيون أو الإسرائيليون إلى فتح النار أولاً، فإنّ لبنان سيكون ساحة أساسية وصندوق بريد. وفي ظل الأزمة الخانقة التي يعيشها، ستكون وطأة المواجهة أكبر بكثير من قدرته على التحمّل.