بعد سبعة أيام من تراكمها في الطرقات، صارت النفايات ترفع اسم لبنان. «لبنان يغرق في النفايات»، عنوان «مثير» انتقل إلى صحف عربية وأجنبية عديدة، بعدما كان الخبر اللبناني مقتصراً على الفراغ والأمن. أما في الداخل، فبدلاً من البدء برفع المأساة عن كاهل الناس بدأت ترتفع رائحة الفساد، الذي يرافق هذا الملف منذ عشرين عاماً.
من انتظر الحكومة لتجتمع وتتحمل مسؤوليتها، وجدها تغرق في همومها وأزماتها التي لا تشبه هموم الناس. آلية عمل مجلس الوزراء قد تكون مهمة، لكن هل يعقل أن لا تعالج المؤسسة الوحيدة الباقية على قيد الحياة أزمة بحجم أزمة النفايات التي تملأ الطرقات والأنوف والصدور؟ وهل يكفي أن يقال إن المجلس سبق وأقر الحلول المطلوبة، ومن المفترض تنفيذها؟ ألا يبدو جلياً أن الخطة بحاجة إلى إعادة نظر أو إلى تطبيق سليم أو ربما إلى الرمي في النفايات، إذا كانت نتيجتها بهذا السوء؟
مع ذلك، فإنه من اللافت أن معظم القوى السياسية ما تزال تدعم الخطة التي أقرها مجلس الوزراء، لكن «كتلة الوفاء للمقاومة» راحت أبعد في تحميل المسؤولية إلى الاهتراء السياسي الذي أصاب الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، مع تمدد الفساد إلى العديد من المواقع والتسبب بهدر المال العام وممارسة الابتزاز وتمرير الصفقات المريبة وتلقي الرشاوى وتقاسم المغانم..
أما بعدما خلصت «الكتلة» إلى اختلاط «نتن الفساد في الدولة مع نتن الروائح المنبعثة من النفايات التي توزعت بين الأحياء وعلى الطرقات»، فإنها طرحت سؤالاً جوهرياً أعاد تسليط الضوء على ما قد يكون وراء كل الأوبئة المتنقلة في شوارع بيروت: «من الذي منع تقدم العارضين الى المناقصة المعلنة لبيروت والضواحي؟».
من يطرح هذا السؤال يشتمّ عملياً رائحة فساد وضغط سياسي على المتعهدين الذين كان يمكن أن يتقدموا لمناقصة بيروت ولم يفعلوا. وإذ تحفظت «الوفاء للمقاومة» على ذكر التفاصيل، فإن مصدراً حكومياً يؤكد «بالمعلومات» أن تيار «المستقبل» هو الذي ضغط على المتعهدين لمنعهم من التقدم إلى المناقصة.
أما سبب هذا الضغط فيعود إلى رغبة من «المستقبل» في «ترك الساحة لسوكلين، وعدم السّماح لأحد بالدخول إلى ملعبها». فمجرّد تقدم إحدى الشركات إلى مناقصة بيروت سيفرض على «سوكلين» التقدم بدورها إلى المناقصة ولا أحد عندها يضمن ما إذا كانت ستفوز بالعقد أم لا. علماً أن تقديمها، أو تقديم أي متعهد سعراً منافساً، قد يفتح العين مجدداً على المبالغ الطائلة التي كانت تتقاضاها بدل تأمينها خدمات كنس وجمع وفرز النفايات، خلال العقدين الماضيين.
وما بدا موارباً في بيان «كتلة الوفاء للمقاومة»، قاله الوزير السابق وئام وهاب مباشرة، إذ اتهم الرئيس فؤاد السنيورة بتعطيل مشروع وزير البيئة لإدارة ملف النفايات بهدف إبقاء «سوكلين»، مشيراً إلى أن أحداً لم يتقدم الى المناقصات، لأن الجميع هُدّد إذا فعل ذلك.
وبحسب ما سبق، فإن «المنع» ساهم في تأخير فضّ العروض وبدء الشركات التحضير لتسلّم المناطق التي فازت بها، وهو ما ساهم عملياً في إعاقة أي حلول مؤقتة كان يمكن للبلديّات أن توافق عليها إذا ما رأت أن ثمّة خطوات عملية بدأت الحكومة تنجزها في إطار الحلول الدائمة.
وفيما رفض النائب محمد قباني مناقشة «نظريات المؤامرة»، رأى أن السبب الوحيد للأزمة هو اشتراط دفتر شروط المناقصة على الشركات المتقدمة إيجاد المطامر، بالرغم من أن الجميع يعرف أن ذلك لن يكون ممكناً بالنسبة لبيروت. لكن مصادر محايدة ذهبت أيضاً إلى استبعاد «نظرية مصلحة سوكلين»، مشيرة إلى أن كل المناقصات التي حصلت هدفت إلى محاربة الشركة تحت شعار «كسر الاحتكار». ولذلك، وضِعت دفاتر شروط تؤمّن ظروف المنافسة لهذه الشركة عبر السماح للمتعهدين اللبنانيين بالتعاون مع شركات أجنبية ذات خبرة للتقدم إلى المناقصة والاشتراط على المتقدمين إيجاد الاماكن للمعالجة والطمر والتكنولوجيات التي تناسبهم، وأخذ الموافقة السياسية على أماكن الطمر.
الأكيد أن تأخير المناقصات، بغض النظر عما إذا كان ذلك بفعل فاعل أو بفعل خلل في دفتر الشروط، قد ساهم في إغراق اللبنانيين بنفاياتهم. لكن الأكيد أيضاً أنه لو التزمت الحكومات المتعاقبة بما أقرته حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2010، لمعالجة ملف النفايات (الاعتماد على التفكك الحراري عبر المحارق، التي تنتج صفر تلوث)، لما وصلت الأزمة إلى هذا الحد، حيث فاقت رائحة السمسرات والفساد كل الحلول.