مع شيوع انطباع عام بأن الصراع السوري يقترب من نهاياته، يسود توجّس لبناني من مآلاته أكثر إقلاقاً من الخوف الذي ساد سابقاً من تداعياته. ومردّ ذلك الى دخول مصطلحات “الفيديرالية” و“التقسيم” و“اللامركزية” سوق التداول السياسي مستبقة الانطلاق الفعلي للمفاوضات. وفيما انبرت فئة من الأكراد، هي التي باتت نقطة تقاطع بين الولايات المتحدة وروسيا وايران والنظام، الى طرح خيار الفدرلة، تبنّت المعارضة اللامركزية كاقتراح اداري. ويكرّس هذان الخطّان وجود دولة واحدة وحكومة مركزية مشرفة، غير أن السؤال الذي طرحته الأزمة بمساراتها الدموية القاسية هو عن هذه “الدولة” تحديداً وكيف يمكن تغييرها ونقلها من تماهيها المزمن مع عائلة ومذهب معيّنين الى وضع “طبيعي” يتيح تمثيلاً سويّاً للمكوّنات كافةً.
الأرجح أن الاميركيين والروس بلغوا اقتناعاً مشتركاً بأن نظام بشار الاسد، حتى بعدما أنقذه الروس، ليس مستعدّاً للإنخراط في حل انتقالي، ولا قادراً على تلبية شروطه البديهية، بل ظنّ أن روسيا تدخلت لتعيد اليه السيطرة على كامل البلد ليستأنف الحكم من حيث خسره. ولعل صعوبة هذا “الانتقال“، أو ربما استحالته، هي التي تجعل التقسيم خياراً قائماً ومفضّلاً لدى النظام، ولدى الايرانيين أيضاً باعتبار أنه الوحيد الذي يبقي الاسد كضمان لمصالحهم. لكن بروز الاشكال الكردي في تركيا دقّ جرس تحذير في رؤوس الايرانيين. ثم إن الحملة الخليجية – العربية على “حزب الله” دقّت جرساً آخر. ففي الحالين كانت هناك حسابات ايرانية غير دقيقة. اذ إن استدراج المساومة الى حلٍّ تقسيمي تجاهل البعد الكردي داخل ايران نفسها، واعتقد بداهةّ أن سطوة “حزب الله” وسلاحه وارهابه كفيلة بإجراء التغييرات المطلوبة في لبنان، جغرافياً وديموغرافياً، لمصلحة “الدويلة العلوية – الشيعية” المفترضة في سوريا.
بات الانتظار الايراني لهذا الحلّ هو التفسير الوحيد الذي يُعطى الآن لإصرار “حزب الله” على استبعاد انتخاب رئيس للجمهورية، رغم أن المرشّحَين المتبقّييَن هما من حلفائه وتياره. وإذا كان عجباً أن يرضى المرشّحان بخطط مريبة أبسط ما فيها أن حليفهما الأكبر يستمهلهما في تآمره المكشوف على الأرض والسيادة، فالأعجب أن يُراد من اللبنانيين الآخرين “تفهّم” أسباب تلكؤ “حزب الله” وانتظاريته. إذ يتوقّع أن لا يكون الحلّ التقسيمي ايذاناً بـ “عودته” من سوريا الى لبنان، بل يبقيه هنا وهناك، مع اطلاق يده في لبنان. وطالما ان اللعبة دولية، والأوراق الايرانية – الاسدية مكشوفة الى هذا الحد، فما الذي تنتظره الأطراف اللبنانية الاخرى. فالأكيد أن سكوتها وعجزها لا يحفّزان أي طرف دولي أو عربي على الدفاع عن لبنان بجغرافيته الحالية. والواقع أن ثمة بازاراً على وشك أن يُفتَح وليس فيه مَن يمثل لبنان كدولة أو حتى كطائفة/ طوائف ضنينة بكيانيته.