لقد تغيّرت سوريا التي نعرفها… ليس فقط لوقوعها كلها تحت احتلال إقليمي ودولي، بل لتمزّق نسيجها البشري… فها هي سوريا اليوم تبدو مغايرة لما كانت عليه قبل الحرب عام 2011، بعدما تمّ اقتلاع وتهجير نحو 60 في المائة من شعبها… هؤلاء باتوا في المنافي، وأكثريتهم يعيشون في مخيمات تفتقد الحدّ الأدنى من الشروط الانسانية… كما طال التهجير أيضاً عدداً من أعلى الكفاءات السورية.
ومع غياب سوريا التي عرفها الناس، ومع ادعاءات الرئيس السوري بشار الأسد بالنصر المبين، فإنّ نظامه لم يعد يخيف أحداً.. لأنّ انتصاره المزعوم شكلي وموقت…
لقد تقاسمت القوى الخارجية السيطرة على معظم أنحاء سوريا… فمن جهة هناك إيران ومعها ميليشياتها الطائفية المتعددة الجنسيات وهي قوى أحكمت سيطرتها على أجزاء كبيرة من سوريا، وهي توالي تنفيذ مخطط تشييع واسع، وتنحو على غرار موسكو منحى يتميّز بابتزاز بشار الأسد لانتزاع تنازلات سيادية، تضمن للإيراني حقوقاً مماثلة لحقوق المواطن السوري.
الى ذلك، تحتل تركيا أجزاء من الشمال السوري، ومعها ميليشيات متطرّفة، لا تعدو كونها أدوات لهذه السيطرة، غير ان اللافت هو ربط الشمال السوري اقتصادياً وحتى تعليمياً وثقافياً بتركيا… ويأتي ذلك توازياً مع تحكم الوجود الاميركي بمناطق الشرق السوري الغنية بالنفط والغاز.. أما على الأرض فتسيطر قوى الأمر الواقع، قوات سورية الديموقراطية (قسد)…
هذا من جهة.. أما من جهة أخرى، فإنّ النظام السوري الحالي مستمر، ليس استناداً الى دعم شعبي، أو قوّة عسكرية متمكنة… بل أساساً بفضل الدعم الروسي وحلفائه وبخاصة الايرانيين.
أما مناطق سيطرة المعارضة، فإنها تتوزّع في إدلب وشمالي غربي حلب.
أمام هذا الوضع المأسوي، يتساءل المراقبون وبكل موضوعية عمّن يمسك بزمام الحكم في سوريا اليوم، ومن هو صاحب القرار الفعلي هناك..
بالتأكيد.. يعرف الجميع ان الجواب صعب، وليس بالسهولة التي يتصوّرها البعض… فالقرارات متعدّدة ومتنوّعة ومتلوّنة، لكن المراقبين يحصرون الإجابة… وعلى سبيل الدعابة- باسمين فقط؛ إذ يقولون إنّ من يحكم سوريا اليوم ليس بشار الأسد، الرئيس السوري الحالي… بل هو مرشد الثورة الاسلامية في الجمهورية الاسلامية السيد علي الخامنئي… فهو الحاكم الفعلي، وصاحب القرار النافذ هناك من دون منازع.
وسأعود الى التفصيل، علّنا نجد من خلاله الأدلة التي نبتغيها للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه.
إنّ نظرة واقعية ومتأنية الى خريطة السيطرة العسكرية في سوريا في عامي 2022 وما مرّ من العام 2023 يؤشّر الى ما يلي:
أولاً: نصف الشعب السوري نازح وموجود خارج سوريا.
ثانياً: مناطق النفوذ على مَن تبقى من الشعب السوري في الداخل موزعة كما يلي:
ألف: يسيطر حالياً حزب الله وميليشيات شيعية أخرى مدعومة من إيران كالحشد الشعبي وأنصار الحق، اضافة الى الحرس الثوري الايراني على حوالى 20 في المائة من المناطق… فحزب الله اللبناني يحتل الحدود اللبنانية، وهو نشر قواعده في الزبداني والقصير التي يسيطر من خلالها على منطقة القلمون الجبلية..
وبالمثل تدير الميليشيات الشيعية العراقية جانبي الحدود من «البوكمال» الى «التنف».. كما تمتد قبضة القوات الموالية لإيران أيضاً الى العديد من المطارات العسكرية السورية، والتي غالباً ما تكون بمثابة وسيلة لنقل الأسلحة الايرانية الموجّهة الى حزب الله… ما يكشف عن اندماج سوريا بالكامل في المحور الايراني.. أو ما يسمّى بمحور الممانعة.
باء: إنّ ادعاء النظام السوري بأنه عاد الى الحدود الأردنية، وأعاد فتح معبر «نصيب» في جوّ احتفالي مهيب، كان أقرب الى الوهم… فوجود جيش هذا النظام في محافظة درعا سطحي…
جيم: في شمالي سوريا، بدأت تركيا كما ذكرنا، ومنذ العام 2013 ولا تزال، ببناء جدار حدودي في منطقة القامشلي معقل الأكراد السوريين… ومنذ ذلك الحين وسّعت تركيا هذا الحاجز على طول الحدود الشمالية بأكملها لوضع حدّ للتسلل من هناك من قِبَل حزب العمال الكردستاني.. وهو جماعة تعتبرها أنقرة عدوّها الأول، والمنظمة الأم للفصائل الكردية التي تسيطر على أجزاء ليست بالقليلة في سوريا.
دال: اما روسيا فتسيطر على المناطق المحيطة بعين العرب (كوباني) مشاركة مع «قسد»، إضافة الى القواعد الروسية في حميميم وطرطوس.
هاء: إشارة الى أن أميركا حافظت على احتلالها لأماكن النفط والموارد الطبيعية الأخرى، وأقامت قواعد عسكرية في شرقي سوريا وهي تدعم «قسد» بما يلزمها.
واو: حافظت فصائل المعارضة على نسبة سيطرتها وهي 10.98 في المائة من الجغرافيا السوريّة، ولا ننسى ان قوات سورية الديموقراطية وحدها «قسد» تسيطر على 25.64 في المائة من الجغرافيا السورية وهي تشمل أجزاء من محافظة دير الزور والرقة والحسكة.
ويتساءل كثيرون -بعد هذا كله- عما إذا كان بشار الأسد يحكم بلاده اليوم… أو حتى نكون واضحين… يحكم جزءاً من شعبه؟
أعتقد، وبكثير من الثقة أنّ السيد علي الخامنئي… هو الذي يتحكّم بمفاصل ما تبقى من الدولة السورية اليوم… والأيام المقبلة قد تكون مليئة بالأحداث…