اصرار الفريق المحيط بالرئيس سعد الحريري على اشاعة اجواء توحي بتمسكه بمبادرته الرئاسية، وزيارة مبعوثيه الى بنشعي خلال الساعات القليلة الماضية، لا تقدم الكثير من الاجوبة حول طبيعة المرحلة المقبلة، لان المشكلة لم تعد في اكتشاف «صدق» نوايا الحريري من عدمها، ولم يعد الشك الطبيعي والمنطقي حول جهوزية السعودية لابرام تسوية لبنانية في ظل تصعيدها المتمادي ازاء حزب الله، هو المشكلة، بل انتقلت الازمة الى «مربع آخر» يتعلق بقدرة الحريري على تسويقها بعد سلسلة الاخطاء المميتة التي ارتكبها، والسؤال الاهم يبقى هل هو الشخص المناسب لابرام الصفقة معه في ظل الشكوك الكبيرة المحيطة بعثراته المتراكمة التي منحت المعترضين على التسوية «ذخائر» مجانية «لاطلاق النار» عليه وعليها. وهل يظن بعد كل ما تقدم انه قادر على الذهاب الى اي تسوية بشروطه؟
اوساط في 8آذار ترى ان الاسابيع القليلة الماضية فضحت الواقع الاجوف الذي يعيش فيه الحريري وتبين اولا ان جمهورا واسعا من تياره لم يعد قادرا على تحمل «مغامراته العبثية»، «اللعب» على وتر استعادة هيبة الزعامة السنية لم يعد كافيا لاقناع هؤلاء بصوابية خياراته، والا لما اضطر الامين العام لتيار المستقبل «لنهر» قيادات التيار الازرق ودعوتهم «الفجة» للصمت لان لا كلام يعلو فوق كلام ابن خاله، ولا كان هدد «بالدم» لتبرير خياره الرئاسي. الصدمة جاءت اولا من داخل تياره ومن شارعه ثم من حلفائه المسيحيين، بعد ان كان اكد لمن راجعه حول توقعاته من مواقف هؤلاء ان لديه من الوسائل التي لا تجعلهم يعترضون على قراراته. لكن الوقائع كشفت عن هوة كبيرة بين ما يعتقد وبين المعطيات على الارض. «صمت» حزب الله عمق الازمة داخل «معسكره» وفوت الفرصة على كل من ظن ان الحزب «ساذج» لاتخاذ مواقف ايجابية او سلبية مستعجلة، يمكن البناء عليها لخوض «معركة» يفضلها الحريري، لكنه وجد نفسه امام مواجهة في شارعه ومع حلفائه، حتى الان يصر على عدم التراجع لانه لا يريد خسارة موقعه الاقليمي «المترنح» بعد ان ورط بعض القيادة السعودية ومعها الفرنسيون والاميركيون «بمغامرة» ظن ان «الطريق معبدة» امامها، هو يدرك ان نجاح التسوية او فشلها لن يخفف من وقع الكارثة، الضرر قد وقع، «ورأب الصدع» واستعادة الثقة يحتاجان الى الكثير من العمل المضني. كان الحريري يأمل تعويض الخسائر بعودته الى رئاسة الحكومة، واذا لم ينجح في ذلك، سينطبق عليه المثل الشامي «لا بالشام عيدنا ولا …لحقنا العيد».
وبحسب تلك الاوساط، الحريري يعاني من أزمة مالية ولم يعد قادرًا على توفير الخدمات لتياره السياسي، ومع غياب أية بدائل أخرى، في ظل الطوق المحكم عليه ماليا من قبل الحكم السعودي الجديد مع محاولة ولي العهد محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان السيطرة على الشركات الكبرى في السعودية ومنها سعودي اوجيه، فان زعيم المستقبل ظن انه قادر على حل مشاكله الشخصية تحت ستار «المصلحة الوطنية» بانهاء الشغور الرئاسي، وتوقع ان يغفر له حلفاؤه وجمهوره، كما سبق ان فعلوا عندما ذهب الى دمشق وامضى ليلتين لدى الرئيس بشار الاسد، واعتقد ان تسويق فرنجية باعتباره «الأضعف مسيحيًا» من حيث الشعبية، واقصاء «الجنرال» سيمران مرور الكرام، باعتباره انجازاً يعول عليه، لكن هذا الامر لم يحصل، وحتى النائب وليد جنبلاط «صاحب فكرة» عدم ايصال الرئيس القوي الى بعبدا، تراجع «خطوة الى الوراء» بعد ان شعر بان الحريري استدرجه الى موقف لا يحسد عليه، بعد ان افرط بالترويج للتسوية وحرق المراحل عبر استقبال فرنجية في كليمونصو، لكنه اكتشف متأخرا ان الحريري لم يحصن المبادرة بشكل كاف وكلامه عن تبني واشنطن والرياض وباريس للتسوية غير «دقيق»، وفهم ان تلك الاطراف حاولت لاحقا فهم طبيعة التسوية وشروطها غير المكتملة، كما ان ثمة من في السعودية لم يكن في الاجواء، فضلا عن عدم وجود قنوات اتصال مع ايران وحزب الله، وان الحريري اتخذ قراره بعد ان طرح على فرنجية سلسلة من الاسئلة «الساذجة» منها ما يتعلق بعلاقته بالرئيس السوري بشار الأسد وامكانية قطع العلاقة الرسمية معه، بعيدا عن العلاقة الشخصية التي تربط الرجلين، كذلك طبيعة علاقة العهد الجديد مع إيران، وامكانية التراجع «خطوة الى الوراء» في العلاقة مع حزب الله بصورة تجعل فرنجية في موقع وسطي، واسئلة اخرى حول تقاسم الوزارات، وفرع المعلومات، وقيادة الجيش، كلها اسئلة لم يحصل الحريري على ما يفضي الى ان فرنجية ذاهب الى الانقلاب على تاريخه السياسي وتحالفاته المعلنة، راهن الحريري على سقوط فرنجية بـ «فخ» المنصب وتقديم تنازلات ضرورية تجعله مقبولاً من فريق «14 آذار« لكن هذا لم يحصل، وتبين أن الترشيح لم يكن مبنيًا على تنازلات مسبقة قدمها زعيم المردة، بل تمنيات بأن يقدم تنازلات، وكانت المفاجأة في اصرار الحريري على المضي قدما بالتسوية، لكنه اكتشف أنه غير قادر على تسويقها. هكذا اضطر الحريري الى تأجيل عودته الى بيروت وارجاء اعلانه الرسمي لتبني خيار فرنجية الرئاسي، ودخلت الامور طور المراوحة بانتظار تبلور حركة الاتصالات المحلية والدولية مع التحرك النشط للقائم بالأعمال الأميركي السفير ريتشارد جونز.
وبحسب تلك الاوساط، لم يعد السؤال هل حزب الله موافق على هذه التسوية وهل هو مستعد للتخلي عن العماد عون والسير بترشيح فرنجية؟ لان اللقاء بين «زعيم المردة» والامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله نقل الملف من مرحلة الاسئلة «الساذجة» الى مكان آخر يتسم بالجدية والمسؤولية الوطنية حيال هذا الاستحقاق، لم يكن فرنجية ينتظر تراجعا من نصرالله حول موقفه «الاخلاقي» والواقعي حيال ترشيح «الجنرال»، ولم يكن قادما لتقديم اي مبررات لموقفه، اصلا لم يكن هناك اي التباسات حيال موقفه وموقعه، لكن السؤال الرئيسي يتعلق بالبحث عن ظروف هذه المبادرة وخلفياتها، خصوصا ان «زعيم المستقبل» لم يحل مشاكله في «معسكره» ولم يقدم على خطوة رسمية بعد، ويحتاج الامر الى المزيد من التروي. السؤال المركزي اليوم هو عما اذا كان حزب الله يقبل بعودة سعد الحريري رئيساً للحكومة بلا شروط؟ او بحسب شروطه؟ ماذا عن قانون الانتخابات؟ وغيرها من الاسئلة الجوهرية التي تتجاوز مسألة اسم الرئيس العتيد، فالسيد نصرالله متمسك بـ «السلة» المتكاملة لاي حل داخلي، وحتى الان لم يقدم الطرف الاخر سوى «تنازلاً» شكلياً مرتبطاً بالرئاسة الاولى، نعم شكلي، لان الظروف الراهنة تحتم انتخاب رئيس من فريق 8 آذار مقابل اعطاء رئاسة الحكومة ل14آذار، وقبول الفريق الاخر بهذه المعادلة ليست منة او تنازلاً، المعطيات الداخلية والاقليمية لا تسمح للفريق الاخر بخيار آخر اذا ما اراد تفعيل حضوره الداخلي واعادة الحريري الى رئاسة الحكومة، واذا لم يقتنع هذا الفريق بان هذه العودة لا يمكن ان تتم بشروطه، لانه ليس في موقع يخوله فرض اولوياته واجنداته على الطرف الاخر، فان البت بالاستحقاق الرئاسي مؤجل والفراغ مستمر لأمد طويل.