IMLebanon

من الأخطر: بوتين أم البغدادي؟

قد يبدو طرح هذا السؤال مستغرباً للوهلة الأولى. وقد يكون وجه الغرابة أن فلاديمير بوتين رئيس دولة بينما أبو بكر البغدادي اصطنع لنفسه دولة ولقباً ووظيفة، وأخذ يذبح خصومه على الهوية بشكل همجي من دون أخذ أي قيم إنسانية أو دينية أو حضارية في الاعتبار.

لكن الاستغراب يخف عندما نضع جدولاً بالمقارنات، بين ما يفعله خليفة ستالين وبريجنيف بالأمن الأوروبي، وما يفعله «الخليفة إبراهيم» من الجهة الأخرى بأمن المنطقة العربية، وما ترتكبه سيوفه من دماء ومذابح بحق رقاب أهل المنطقة وضيوفها، وبحق حدود دولها. فلاديمير بوتين يعمل على إعادة روسيا الاتحادية إلى أيام القياصرة وعصر الاتحاد السوفياتي، وإبراهيم بن عواد السامرائي (أبو بكر البغدادي) يريد إعادة المنطقة العربية إلى ما قبل سايكس بيكو، وإعادة ثقافتها إلى ما قبل عصور التنوير التي عرفت فيها دول الإسلام وامبراطورياته أرفع مستويات قيمها ورقيها. وحتى في أعداد القتلى فان بوتين يستطيع أن ينافس البغدادي بجدارة، فإذا كانت مجازر البغدادي في سورية والعراق منذ الصيف الماضي قتلت الآلاف وهجرت عشرات الآلاف، فان الحرب التي يرعاها بوتين في شرق أوكرانيا أودت بحياة 3600 شخص على الأقل في الشهور الستة الأخيرة.

الخطر الذي تمثله سياسات بوتين على الأمن الأوروبي لم تعد خافية. هناك اتفاق بين الدول الغربية أن ما يرتكبه الرئيس الروسي في أوكرانيا لا يقل خطورة عما ارتكبته دبابات نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف في بودابست وبراغ عامي 1956 و1968. يزيد من حجم القلق أنه في الوقت الذي يحتفل العالم بمرور ربع قرن على سقوط جدار الكراهية الذي بناه الروس في وسط برلين، يبني بوتين جدراناً أخرى قرب حدود بلاده لمنع أبناء الدول المجاورة من حق الحلم في انتماء آخر، غير الانتماء إلى «العالم الروسي». والكلام الذي سمعه بوتين خلال قمة العشرين في أستراليا قبل أيام يذكّر كل متابع بما كان يسمعه قادة الاتحاد السوفياتي من الرؤساء الغربيين أيام الحرب الباردة، من اتهامات بالكذب، عندما كان ينفي هؤلاء أي سيطرة أو نفوذ لهم في عواصم الكتلة الشرقية. خطورة ما يفعله بوتين أنه يضع أوروبا والعالم على فوهة بركان، فيما كان الاعتقاد أن سقوط الاتحاد السوفياتي وعمليات الاندماج الحاصلة في الاتحاد الأوروبي أصبحت ضمانة للسلام في القارة الأوروبية.

البغدادي من جهة أخرى يضع المنطقة العربية على فوهة بركان أكثر خطورة، تتشكل حممه من الصراعات المذهبية التي يغذيها تنظيم «الدولة الإسلامية»، بسبب مواقفه الدينية المتطرفة وسلوكه الإجرامي والوحشي. ففي الوقت الذي كانت المنطقة العربية تطمح إلى الانتقال إلى عصر تنفتح فيه على ثقافات العالم وحضاراته وتبني معها جسوراً من التواصل، أسوة بما فعله أجداد في عصور سابقة، يعلن البغدادي وزمرته القطيعة مع العصر، ويفتح أبواب المنطقة على صراع مفتوح يعيد الدول الكبرى إلى ساحة المعركة، بهدف القضاء على هذا التنظيم ومنعه من التمدد إلى عواصم تلك الدول، نتيجة انتماء كثيرين من أعضائه و»ذبّاحيه» إلى جنسيات الدول الغربية.

هكذا يجد الغرب نفسه اليوم أمام معركتين، مع «داعش» من جهة، ومع بوتين ومخاطر توسعه في شرق أوروبا من الجهة الأخرى. وإذ يبحث الخبراء والاستراتيجيون في الخطر الذي يجب أن يشكل مصدر القلق الأكبر للدول الغربية، فانهم يعتبرون أن القضاء على «داعش» يحتل الأولوية، أولاً لأن هذه الدول تخوض اليوم حرباً فعلية مع التنظيم الإرهابي لا بد لها من كسبها بالتعاون مع حلفائها، وثانياً لأن ما يجري في الشرق الأوسط والمنطقة العربية يشكل إعادة رسم لخريطة هذه المنطقة، بما يعنيه ذلك من ضرورة الاهتمام بما ستنتهي إليه الأمور بالنسبة إلى المصالح الغربية فيها.

وبقدر ما يتجه اهتمام الغرب صوب «داعش» والبغدادي، يشعر فلاديمير بوتين أنه يستطيع أن يتابع التدخل في شؤون جيرانه، فيما عيون العالم تتطلع إلى وجهة أخرى. لقد ابتلع بوتين شبه جزيرة القرم، واقتطع عملياً شرق أوكرانيا عن الأجزاء الباقية من ذلك البلد، وقد يتجه غداً صوب دول البلطيق، فيما التلكؤ الغربي، والأوبامي خصوصاً، حيال الأزمة السورية، هو الذي سمح لإرهاب «داعش» وسواه من تنظيمات بالنمو والتمدد، حتى صارت تشكل خطراً يفوق الخطر الذي يمثله بوتين على الأمن العالمي.