يُجمِع المؤرخون على القول إن صحراء سيناء تُعتبر من أهم المواقع الجغرافية التي تميزت بغزارة الأحداث، وتجدد فصول التاريخ الملحمي، الأمر الذي يجعلها مكاناً اسطورياً يصعب تجاهله.
عرفت هذه الصحراء قبل ثلاثة آلاف ومئتي عام إتحاداً جمعها مع وادي النيل كان بمثابة المحاولة الأولى لظهور الدولة المركزية.
وجاء في التوارة (العهد القديم) أن النبي موسى هرب اليها خوفاً من إضطهاد الفرعون رمسيس الأول. وفي تلك الصحراء الواسعة ذكرت التوراة أن الشعب اليهودي تعرض لتيهٍ إستمر أربعين سنة.
ويُستفاد من مراجعة تاريخ تلك الرقعة الجغرافية الفريدة أن أساطيرها وحكاياتها ملأت صفحات الكتب التاريخية والدينية.
وعندما وُقعت إتفاقية “كمب ديفيد” بين أنور السادات ومناحيم بيغن، أعطيَت صحراء سيناء حيزاً كبيراً لتنظيم عملية إنسحاب القوات الاسرائيلية. وذكرت وثيقة الاتفاق أن الانسحاب التدريجي يتم خلال ست مراحل تستمر تسعة أشهر. وفي المرحلة الأخيرة يُصار الى إنشاء عازل أمني من قوات الأمم المتحدة، بحيث تتمركز في نقاط استراتيجية معينة.
والثابت أن المستوطنين رفضوا إخلاء منازهم، الأمر الذي إستدعى تدخل ارييل شارون لطردهم بالقوة. وتذكر وثيقة الاتفاق أن صحراء سيناء قسمت الى ثلاث مناطق عقب إنسحاب آخر جندي اسرائيلي:
المنطقة (أ): حيت تنتشر قوات مصرية لا يزيد عدد أفرادها على 22 ألف جندي، مزودين بأسلحة ثقيلة كالدبابات والمجنزرات.
المنطقة (ب): حيث تتولى قوة مصرية مؤلفة من أربعة آلاف جندي تابعين لحرس الحدود هذه المهمة.
المنطقة (ج): وفيها تنتشر قوة تابعة للأمم المتحدة، تتولى عملية المراقبة بالتعاون مع المصريين. يقابلها على الطرف الآخر فريق اسرائيلي أوكِلت اليه المهمة ذاتها.
بعد إنسحاب القوات الاسرائيلية من الصحراء، نشطت القبائل السيناوية في ممارسة عمليات تهريب المخدرات والأسلحة. وكان من نتائج تلك المخالفات زيادة عدد أفراد الدوريات، وشن حملات مداهمة بواسطة المروحيات وخلافها.
وكان من نتائج المعاملة السيئة خلال عهد حسني مبارك أن إزداد نشاط هذه الفئة المعزولة أو المنبوذة. وحجّتها أن الدولة عاملتها باهمال تام، وصنفتها في عداد الجواسيس والعملاء، بحيث حرمتها من تملك الأراضي أو الالتحاق بالكليات الحربية والادارات الرسمية.
ويرد العسكريون في مصر على هذه الاتهامات بأنها غير صادقة وغير صحيحة، بدليل أن أبناء زعماء العشائر حصلوا على وظائف رفيعة في دولة يحترمون قوانينها. في حين أن تجاهل المخرِّبين حدث كردّ فعل على إستغلالهم من قبل الأحزاب الدينية المتطرفة في مصر وغزة، الأمر الذي عرَّض القاهرة لاحتجاج اسرائيل على مخالفة شروط إتفاقية السلام.
في سلسلة أحداث العنف التي قادت الى مقتل 33 جندياً مصرياً آخر الشهر الماضي، سجلت الصحف وقوع مجزرة مشابهة سابقة في السابع من آب سنة 2012. وكان ذلك عقب إستلام محمد مرسي زمام الحكم في حزيران 2012.
وبعد إنقضاء شهرين تقريباً على وجوده في الرئاسة، إقتحم مسلحون مجهولون مركز شرطة الحراسة قرب رفح، وقتلوا 16 نفراً، ثم إستولوا على ثلاث مدرعات وتواروا بها عن الأنظار.
وعقد المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي جلسة طارئة، قرر خلالها تعقب القتلة، وتدمير الأنفاق. ولم يقبل الرئيس محمد مرسي بمقررات المجلس العسكري، وأعلن أنه هو المسؤول عن التحقيقات بعدما أقال المجلس. وظهرت في حينه سيناريوات عدة حول هوية القتلة، وما إذا كانوا ينتمون الى سكان غزة، أم الى فريق غريب!
وذكر بعض المحللين أن الفاعلين ينتمون الى “القاعدة”، وأن أيمن الظواهري هو الذي باشر في إرسال محازبيه الى صحراء سيناء، نزولاً عند رغبة صديقه الرئيس مرسي.
وسرَّبت الصحف الاميركية خبر لقائهما السري في “بيشاور” أثناء زيارة مرسي لباكستان. وقالت إن إدارة اوباما كانت على علم بذلك اللقاء، وإنها هي التي شجعت الرئيس المصري على هذه الخطوة. وحجّتها أن إنتقال جماعة “القاعدة” من أفغانستان الى سيناء يعزز سلطة الرئيس الاخواني، ويمهد الطريق لانشاء دولة فلسطينية تكون إمتداداً لقطاع غزة.
وذكر في هذا السياق، أن إعتقال محمد مرسي كان بهدف منع تحقيق هذه الغاية، خصوصاً أن أجهزة الاستخبارات العسكرية المصرية سجلت له كل المكالمات السرية التي أجراها مع واشنطن وأيمن الظواهري.
يوم الجمعة الموافق 24 من الشهر الماضي، تعرضت فرقة عسكرية مصرية لهجوم مفاجىء أدى الى مقتل 33 ضابطاً وجندياً، وإصابة أكثر من 25 آخرين.
ودعا الرئيس عبدالفتاح السيسي الى إجتماع طارىء لمجلس الدفاع الوطني، بهدف إحتواء الحادث ومنع تكراره. وتقرر في ذلك الاجتماع نقل قوة إضافية الى الشريط الحدودي، وإعادة توزيع السكان بعد إقامة منطقة عازلة والاسراع في عمليات هدم الأنفاق.
وأوحى الرئيس السيسي في تعليقه الأول على الحادث بأن الحاجة الأمنية تقتضي فصل مليون ونصف المليون من سكان سيناء عن مليوني مواطن فلسطيني يعيشون في غزة.
وذكرت الصحف أن هناك أكثر من ألف وخمسمئة عائلة على الجانب المصري، تلقت الأمر بالاخلاء مع تعويض رمزي لا يكفيها أكثر من شهر.
مقابل هذه المنحة الرمزية، قررت القاهرة إنشاء ثلاث قرى زراعية في عمق سيناء تستطيع الدولة من خلالها تأمين السكن والعمل لأكثر من ثلاثة آلاف عائلة.
من جهة أخرى، عجزت الأجهزة الأمنية عن إكتشاف هوية التنظيم الذي ينتمي اليه منفذو الجريمة. خصوصاً بعد ظهور أدلة تشير الى أكثر من جهة متورطة مثل “القاعدة” و حركة “الاخوان المسلمين” و”داعش”.
هذا الأسبوع، بوشر التحقيق مع عدد من شيوخ القبائل البدوية، كونهم وحدهم يعرفون مواقع فتحات الأنفاق وكهوف الاختباء وإخفاء الأسلحة. والثابت أن الأجهزة المختصة تتعامل مع هؤلاء الشيوخ بكثير من السرية، خوفاً عليهم من إنتقام جماعة “القاعدة” أو جماعة “داعش.” والمؤكد أن معارضي حسني مبارك ومحمد مرسي قد وجدوا في هذا الحادث الدموي سبباً وجيهاً لانتقادهما، لأنهما سمحا بازدهار صناعة الأنفاق، التي تجاوز عددها 1500 نفقاً.
الوضع المعيشي في غزة إزداد سوءاً بعدما أغلقت مصر معبر “رفح”، وقررت تطبيق خطة إقامة منطقة عازلة بين الجانب الفلسطيني والجانب المصري من “رفح.” وقد تبرعت المؤسسات الدينية في إصدار فتاوى تسمح باخلاء الشريط الحدودي مع قطاع غزة. وأكد مفتي الجمهورية المصرية، شوقي علام، بأنه يجوزشرعاً نقل المواطنين الى أماكن آمنة لمواجهة الارهاب الذي يتهدد الوطن. كذلك قررت وزارة الأوقاف فصل أي إمام مسجد يثبت تستره على وجود نفق تحت المسجد.
وقد تكون هذه هي المرة الأولى في عهد عبدالفتاح السيسي تستخدم الدولة المؤسسة الدينية لدعم خططها السياسية. أو أن المؤسسة الدينية تبرعت للدفاع عن نظام لا تعتبره جماعة “الاخوان المسلمين” شرعياً.
وقد رأى البعض في هذا التحيّز رداً منطقياً على أحزاب التيار الاسلامي التي وظفت المنابر والمساجد لشن حملات سياسية ضد خصومها ومناهضي نهجها.
بقي السؤال المتعلق بمفتعلي المجازر ضد الجيش النظامي في صحراء سيناء… وضد المواطنين الآمنين في القاهرة والاسكندرية.
وهل صحيح أن كل ما يجري في مصر من عنف هو إنتقام للرئيس المعزول محمد مرسي؟
يوم توقيع إتفاقية السلام مع مصر، أعلن هنري كيسينجر أن الانتصار السياسي الذي حققه مناحيم بيغن يتعدى الانتصار العسكري الذي حققه موشيه دايان في حرب 1967. والسبب أنه حيَّد أكبر دولة عربية، وحرم العرب من ركيزة إقليمية يستندون اليها في نزاعاتهم المقبلة.
وقد تكون الاضطرابات والمتفجرات التي تقلق الأجواء الآمنة في المدن المصرية هي السلاح الآخر الذي يشلّ إرادة النظام، ويمنعه من تحقيق دوره.
لهذه الأسباب وسواها يعتبر الرئيس السيسي أن معركته مع خصومه في الداخل والخارج لم تعد مجرد معركة بقاء في الحكم، بقدر ما هي معركة وجود.
من هنا القول إن قتل 33 ضابطاً وجندياً قرب “رفح” سيعطي رئيس الجمهورية حجة إضافية لاحكام قبضته العسكرية على مفاصل الحكم، تماماً مثلما أعطت رصاصات الاخواني محمود عبداللطيف الرئيس جمال عبدالناصر المبرر لزيادة هيمنته على الحكم!