تحتفظ الأديرة والكنائس القبطية القديمة في مصر بوثائق تاريخية، تروي مسلسل الاضطهادات التي تعرض لها أفراد هذه الطائفة. وفي سجلات تلك المجازر تبرز عملية شهيرة أمر بارتكابها الإمبراطور الروماني الظالم دقلديانوس عام 284 م. وبسبب الرعب الجماعي الذي تركته تلك المأساة في نفوس الأقباط، قررت كنيستهم اعتبار تلك السنة بداية التقويم القبطي. وفيه يتذكرون الشهداء الذين قتلوا من أجل معتقدهم وإيمانهم.
يوم الجمعة الأسبق، كررت جماعة تنتمي إلى تنظيم «داعش» تمثيل فصل من فصول المآسي التي يتعرض لها أقباط مصر، وذلك باستهداف حافلتين سياحيتين كانتا تقلان عشرات المواطنين المتجهين إلى دير «الأنبا صموئيل» في صحراء المنيا. وخلف الهجوم 35 قتيلاً و33 جريحاً.
ويقع الدير وسط كثبان رملية متعرجة، الأمر الذي يفرض على الزوار والسياح اجتياز الطريق الصحراوي الغربي من أجل بلوغه. وهو واحد من عدة أديرة قديمة جداً يقصدها السياح الأجانب، ويزورها المسيحيون في مناسبات الأعياد. ويعتبر دير القديسة كاترين في سيناء من أقدمها وأكثرها شهرة. وقد تعرض للنهب والاعتداء على رهبانه أكثر من عشر مرات، علماً أن الدولة في مختلف العهود كانت تؤمن له الحماية اللازمة.
خلال تنفيذ العملية، اعترف أحد المواطنين من الذين يسكنون قرب موقع الجريمة، واسمه باسم ندّى، بأنه رأى عنصراً مقنعاً يلتقط صوراً لجثث الأطفال، ولأشخاص حاولوا الهرب، ولكن الرصاص منعهم. وهذا يدل على أن الفاعلين، الذين تسللوا من حدود ليبيا، يريدون إثبات بشاعة عملهم بغرض الحصول على مكافآت سخية.
واستغلت جريدة «وطني»، لسان حال الأقباط، هذه الحادثة المؤلمة لتذكر المواطنين بالعمل الإرهابي الذي وقع ضد كنيسة مار جرجس في طنطا وكنيسة مار مرقس في الإسكندرية. وقد نجا من المحاولة الثانية البابا تواضروس الثاني بأعجوبة. وتعدت حصيلة التفجيرين في أحد الشعانين خمسين قتيلاً، بينما نقلت سيارات الإسعاف مئة وخمسين مصاباً.
فور انسحاب الإرهابيين من صحراء المنيا، أعلن تنظيم «داعش» مسؤوليته عن الحادث ببث بيان مقتضب جاء فيه: «قامت مفرزة أمنية من جنود الخلافة بنصب كمين محكم لعشرات النصارى غرب مدينة المنيا».
واتصل الرئيس عبدالفتاح السيسي بالبابا تواضروس الثاني، لتقديم العزاء بالضحايا، وأكد له أن الحادث لن يمر من دون معاقبة المسؤولين عنه. وردّ عليه البابا بأن المسيحيين في مصر قدموا عدداً كبيراً من الشهداء، ولكن إيمانهم بمصر منذ مئات السنين لن يسمح لهم بتمزيق النسيج الوطني، ولا بالاستسلام لمخططات الذين يعملون على جعل وحدة هذا الشعب وتماسكه نسخة أخرى من العراق.
وكان بهذا التلميح الهادف يريد التذكير بأن المسيحيين في العراق- بمن فيهم الأشوريون والكلدان والسريان- قد تعرضوا لحملات تهجير مبرمجة، وأن الأقباط في مصر يعانون من أزمات التصفيات المذهبية بهدف دفعهم إلى تفجير فتنة داخلية.
الرئيس السيسي طلب من القوات المسلحة تدمير معسكرات الإرهابيين في ليبيا. وقد شنت هجوماً جوياً على معاقل تنظيمي «داعش» و «القاعدة» في مدينة درنة الليبية. والثابت أن عدة تنظيمات إرهابية قامت، بعد مقتل معمر القذافي وهرب أنصاره، ببناء معسكرات تدريب في درنة وجوارها بغرض تنفيذ عمليات تشويش داخل مصر.
لهذا السبب اضطرت القوات المسلحة المصرية لأن تقوم بعملية عابرة للحدود بهدف تدمير المعسكرات التي أنشئت في ليبيا لغايات تتعلق بزعزعة أمن مصر واستقرارها. خصوصاً أن هذه العمليات الإرهابية عطلت النشاط السياحي، وأفرغت فنادق القاهرة والإسكندرية وشرم الشيخ من زبائنها. كما حرمت الدولة من مكاسب تقدَّر بـ15 بليون دولار سنوياً.
ويرى المراقبون العسكريون في القاهرة أن هذه العمليات لن يُكتب لها النجاح إلا إذا عاونتها عناصر من الداخل. وهذا يعني أن التنسيق بين «داعش» من الخارج و «الإخوان المسلمين» من الداخل هو الرابط الذي يحقق التكامل بين جهتين تجمعهما معارضة النظام القائم.
ويرى بعض المعلقين أن تركيز الإرهابيين على قتل الأقباط يعود في أسبابه غير المباشرة إلى احتضان الرئيس السيسي هذه المجموعة التي تشكل ما نسبته عشرة في المئة من عدد السكان.
وفي معرض الاعتراف بالجميل، شكلت الجالية القبطية أكثر من ثمانين في المئة من أعداد الحشود التي استقبلته بالهتاف أثناء زيارته الرسمية لواشنطن. ورأت الصحف الأميركية في حينه أن «لوبي الأقباط» يرد بالمثل على تحيات الرئيس الذي رفض معاملة أفراد هذه الطائفة كمواطنين من الدرجة الثانية. لذلك تجاوز البروتوكول المطبق، وحرص على مشاركة الأقباط في مجمل المناسبات والاحتفالات، الأمر الذي لم يفعله الرؤساء السابقون.
وبسبب أجواء الانفتاح والاندماج التي أشاعها بطاركة الأقباط، توصل الفاتيكان والأزهر إلى عقد قمة روحية بمشاركة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب.
وكان الأزهر قد جمّد الحوار مع الفاتيكان إثر تصريحات للبابا السابق بنديكتوس السادس عشر عام 2006، بعدما اعتبر أن الدين الإسلامي يرتبط بالعنف.
في مطلق الأحوال، فإن القوات المسلحة المصرية واصلت منذ يوم الأحد الماضي انتشارها قرب الحدود الغربية مع ليبيا، وفي المثلث الحدودي مع ليبيا والسودان. ومثل هذا الإجراء يقتضي بالضرورة ترسيخ التعاون مع الجيش الوطني الليبي من أجل تطهير منطقة الحدود الغربية وضمان وجود منطقة آمنة تحول دون حدوث أي تسلل عبرها.
إضافة إلى هذه الإجراءات الأمنية، أنهى الأزهر الشهر الماضي إعداد مسودة أولية لمشروع قانون يدعو إلى مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين. ويتوقع شيخ الأزهر أن يساهم هذا القانون في الحد من مظاهر الكراهية والتعصب التي تروّج لها تيارات متشددة فكرياً. ومن أجل تغليب ثقافة التسامح، يرى الأزهر أن من المفيد إحياء قيم المواطنة والعيش المشترك.
والمؤكد أن الأزهر كان يرمي، من وراء هذه الدعوة، إلى مواجهة الإرهاب بكل صوره، لا فرق أكان من تنظيم «القاعدة» أم من «داعش». وهو يعرف صعوبة هذه المهمة التي تغذت من أفكار حسن البنا وسيد قطب، مثلما تغذى تنظيم «الإخوان المسلمين» من طروحات المهندس محمد عبدالسلام فرج الذي حرّض المسلمين على قتل «الكفـّار». وقد سوّق هذه الأفكار سيد قطب، الأمر الذي انتهى بإعدام الاثنين.
وعلى رغم الاستعدادات العسكرية لمقاومة سياسة تهجير النصارى من مصر والدول العربية الأخرى، فإن الأسئلة المحيرة تتوقع الأسوأ بعد استتباب الأوضاع واستقرارها.
ويرى الاقتصادي والوزير اللبناني السابق جورج قرم أن ظاهرة تضاؤل عدد المسيحيين في المشرق العربي لا يجوز فصلها عن تعقيدات التطورات السياسية والعسكرية التي يتسم بها تاريخ المنطقة. وهذا يقتضي ربط مصير المسيحيين العرب بالتوترات المذهبية التي تعصف بالمذاهب الإسلامية نفسها، خصوصاً بعد الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة من الخليج إلى المحيط. وهذا ما تجلى في أوضاع متأججة مختلفة من لبنان وسورية والبحرين واليمن والعراق.
وتقدم منظمات حقوق الإنسان مَثلاً على ذلك ما حدث للأقلية السريانية الأشورية في سورية التي انتهت بثلاثين ألف مواطن من أصل مليون ومئتي ألف نسمة. وهم يمثلون شريحة صغيرة ضمن ما نسبته عشرة في المئة من مسيحيي سورية الذين وصل تعدادهم عام 2010 إلى عشرة في المئة من عدد السكان. وهذا الوضع ينسحب على العراق الذي تراجع عدد المسيحيين فيه من مليون وسبعمئة ألف نسمة قبل الغزو الأميركي إلى نصف مليون على أبعد تقدير.
ومن أجل إيجاد أرضية صالحة لوقف الاعتداءات على نصارى المشرق العربي، ترى البطريركية المارونية في لبنان أن حملات الاضطهاد تشجع شباب لبنان، وغير لبنان، على الهجرة والاغتراب، مثلما تشجع أقباط مصر على طلب الحماية في الولايات المتحدة والسويد وسويسرا وغيرها من الأقطار البعيدة عن مواقع الاستهداف.
والعلاج، بحسب آراء المفكرين السياسيين في لبنان، هو العمل على ضرورة الحفاظ على التعددية داخل المجتمعات العربية، كونها تمثل نقيض الفكر الصهيوني الذي باءت محاولاته بالفشل في لبنان بعد غزو 1982.
وفي هذا السياق، لا بد من ذكر الإرهاب الصهيوني الذي يتعمّد تهجير مسيحيي فلسطين، ويركز بصورة خاصة على مدينة القدس التي يحاصرها تحت ذرائع مختلفة.
وفي آخر دراسة قدمها الوزير قرم حول هذه القضية الشائكة، اقترح على وزارات التربية في الدول العربية أهمية ذكر دور العرب المسيحيين الذين حافظوا على اللغة. مع إبراز ظاهرة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين على مر العصور في كل من مصر ولبنان وفلسطين والعراق والأردن.
ونختم بقول الشاعر العربي القديم:
لقد أسمعت لو ناديت حيّا
ولكن لا حياة لمَن تنادي!