لم يبقَ الكثير من حلم ١٤ آذار ٢٠٠٥ اليوم، بعدما تحرّر لبنان من زمن الوصاية السورية ووقع في قبضة السلاح غير الشرعي الذي يتحكم في قرارات الدولة المفصلية، وأهمها الحرب والسلم، ويلقي بظله على شتى المؤسسات الرسمية وأعلى المرجعيات، مما يخل بالتوازن الطبيعي للدولة وأحقية الولاء للوطن دون سواه!
إن قدسية سلاح المقاومة، الذي حرر الجنوب في ٢٥ أيار ٢٠٠٠، تتكرس عندما ينصهر في الدولة ويخضع للشرعية اللبنانية ويصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة الاستراتيجية الدفاعية، التي لا يختلف عليها اثنان في لبنان، والتي من شأنها توحيد الجبهة الداخلية في ظل الضغوطات العديدة وتضارب الأجندات الخارجية ونيران المحيط المستعرة والتي تهدد شراراتها استقرار الداخل اللبناني.
في الحديث عن الجبهة الداخلية، أقل ما يقال عنها اليوم، وبعد مرور أقل من شهرين على تأليف الحكومة، أنها مشرذمة، حيث بات من الواضح أن كل طرف يغني على ليلاه، وليلاه تحددها التزاماته الإقليمية والدولية، محوّلاً القضايا الوطنية الجامعة إلى ملفات خلافية، أهمها اليوم ملفا محاربة الفساد والنزوح السوري في لبنان.
فالاتفاق على ضرورة إطلاق حملة مكافحة الفساد بجدية هو مطلب وطني جامع، إلا أن تحويله لمادة ابتزاز لفريق دون غيره، بينما يعرف كل من يتعاطى مع مؤسسات الدولة أو يتابع شؤونها، أن الفاسدين هم من كل الطوائف والتيارات دون استثناء وعلى مختلف المستويات، من أبسط سمسار معاملات لأعلى مراكز في هرم القيادة، يضرب صدقيتها. فكيف السبيل للتطهير الفعلي، وليس الحزبي أو المذهبي، إذا ما استمر كل فريق بتسييس هذا الملف للنيل من الخصوم، وإحكام سيطرته على مقدرات الدولة، والتي ليست بالطهارة التي يدعي؟
إن تحويل هذا الملف بات أكثر من حيوي بعدما باتت مالية الدولة على شفير هاوية الإفلاس بفعل الإمعان بالنهب المبرمج لوارداتها الحالية والقادمة.
أما الملف الخلافي الآخر الذي يهدد وحدة الموقف الحكومي فهو ملف النزوح السوري، والذي يحاول فريق تسييسه واعتباره مطيّة للدفع نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وكأنه دائماً على الوطن الصغير تحدّي العالم في مواقف شاذة تهدد بوضعه في مواجهة مع المجتمع الدولي وتحمّل عواقب لا طاقة له حتى بالتفكير بها!
إن هذا الملف وصل لهذه الخواتيم المأساوية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي اللبناني بفعل غياب الخطة الرسمية لوضع الأطر وتوجيهه نحو الإنتاجية واستثمار الطاقات الكامنة في العمالة الرخيصة وصاحبة الاختصاص، إن كان في الزراعة أو البناء أو الصناعة أو حتى الصناعة التحويلية وما إلى ذلك من مهارات أتقنوها في بلادهم وكانت مصدر رزقهم، حيث كان من الممكن أن يُخفف من وطأة النزوح ويُعزز فرص العمل للبنانيين والسوريين على السواء، بدلاً من الاكتفاء من إبقائها كمجموعات سلبية في محيطها، تحت رحمة المساعدات الخارجية، أو ما يصل منها، تعيش على هامش المجتمع في فراغ فتح أبواب الجريمة وعمالة الأطفال والاستغلال الجنسي وصولا للتجارة البشرية وأبشع الانتهاكات لأبسط حقوق الطفل والإنسان على مصراعيه، موقعاً لبنان في قعر أزمة اجتماعية أولاً ومعيشية واقتصادية، في حين لا يزال كل فريق يحاول تسييس هذا الملف وخدمة التزاماته بدلاً من خدمة المصلحة الوطنية العليا.
لقد بات معلوماً أن هذا الملف، كان ولا يزال، خاضعاً للصراع الدولي على الساحة السورية، ونهايته مرتبطة ببلورة الحل النهائي مع النظام السوري، فإلى أن تصل الأمور إلى خواتيمها وتتضح نية النظام تجاه من يعتبرهم معارضين، وهم بالملايين، وبالتالي غير متحمس لعودتهم، لا بد للبنان أن يلتزم النأي بالنفس ويحاول لملمة شتاته الداخلي للحد من الأضرار المستفحلة والتي باتت تهدد ما تبقى من اقتصاد واستقرار داخلي، خاصة أن الحد الأدنى من التناغم يتم الحفاظ عليه بين الرئاسات الثلاث، على الرغم من التباين بالسياسات الخاصة لكل فريق، إلا أنه ليس من مصلحة أحد، لا العهد ولا مصلحة لبنان ولا حلفاء النظام السوري، أن يخرجوا من مظلة الدولة والانكشاف التام لنيران الصراع الدولي الحاصل في المنطقة.
زيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو إلى لبنان والتي باتت معروفة التوجهات والهواجس التي سيطرحها تحتم رص الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات القادمة وإظهار الرؤية المحلية لمعالجة الملفات الحساسة المطروحة بحدها الأدنى من التنسيق، لا ان تفتح شهية البعض لتحويل المنابر لسوق عكاظ تُباع فيه المواقف وتقبض الأثمان في الحسابات الخاصة فتهدر حقوق لبنان النفطية والبرية والمائية بدلاً من المطالبة بها كجبهة موحدة!!