حملة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 24 من الشهر المنصرم تحت عنوان «درع الفرات» وَفّرَت لتركيا قوّةَ الدفع السياسي والديبلوماسي الذي كانت تحتاجه قبل توجُّه أردوغان إلى بكين للمشاركة في قمّة الدول العشرين.
أمّا اليوم فيبدو أنّ الرئيس التركي نجح بعد «العودة المظفّرة» من الصين في فتحِ الباب أمام السيناريوهات والتوقّعات العسكرية والسياسية التركية الجديدة على الساحة السورية.
لِمَ لا وهو اليوم اللاعب الاوّل في شمال سوريا والممسِك بأكثر من ورقة محلّية وإقليمية في أكثر من اتّجاه، تعطي تركيا القدرةَ على المناورة المباشرة التي ساهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والقيادة الإيرانية في إيصالها إلى ما هي عليه اليوم.
أردوغان حسَم النقاش، على ما يبدو أيضاً، في مسألة التكهّنات طوال الأيام الماضية حول الوجهة المقبلة لـ»الجيش السوري الحر» والقوات التركية، بعد السيطرة على جرابلس والراعي وجوارها، بالإشارة إلى أنّ مدينة «الباب» التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» ثمّ مدينة الرقّة عاصمة «داعش» في سوريا ستكونان الهدفَ الآخر المرتقَب.
لكنّ أردوغان ذكّر حليفَه الأميركي وقوات صالح مسلم بأنّ تركيا تعلم بوجود فصائل من «وحدات حماية الشعب» الكردية في منبج، وهي (تركيا) عازمة على إعادة المدينة إلى أصحابها العرب والتركمان الذين عاشوا هناك قبل اندلاع الحرب في 2011 إذا لم تغادرها القوات الكردية من تلقاء نفسها.
صدمة واشنطن كبيرة وهي لا تعرف كيف تخرج منها، وربّما هي تبحث عن الجواب عند الأتراك، بعدما فشلت خطة عرقلة المشروع التركي لأكثر من عامين وقرّرت أنقرة الوصول إلى ما تريد رغم أوباما الذي أبلغَهم أكثر مِن مرّة أنّ الحرب ينبغي أن تبدأ من الجنوب من الرقة أوّلاً في اتّجاه الحدود التركية ـ السورية، وفشلَت تركيا في إقناعه بالعكس الى أن تحرّكت ميدانياً قبل أسبوعين.
أردوغان رمى الكرة في الملعب الاميركي مرّة أُخرى بقوله إنّ واشنطن هي التي اقترحت التنسيق التركي ـ الأميركي في معركة الرقّة، وإنّه أبلغَ إلى نظيره أوباما أنّ تركيا جاهزة لكلّ الاقتراحات في هذا الصَدد، إذا ما كان الاقتراح الأميركي مناورةً فقط لجسّ نبضِ الأتراك، فيبدو أنّهم إذا ما تراجعوا عنه حتى، فإنّ أنقرة ستتمسّك به وتلعبه بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر» وربّما الروس والإيرانيين، فتركيا لا تريد أن تتوقف بعد الآن لتقعَ في مصيَدة سوريا إذا ما حاوَل البعض لعبَ ورقةِ تجميد تحرّكاتها وخططها وتركَها في ورطة الجمود واللاقرار.
واشنطن تعرف بعد الآن أنّ تركيا لن تراهن فقط على ما ستقوله الإدارة الاميركية التي ورّطتها في ملف غرب الفرات وقيّدت يدَها في الحرب على «داعش» وحرَمتها لسنوات من تحريك ملف «المنطقة الآمنة»، لذلك هي جاهزة للاستماع إلى ما تقوله موسكو أيضاً في شأن التركيز على إنهاء «داعش» في سوريا لتتولّى هي مسألة إقناع النظام السوري بقبول خطة المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية في البلاد.
أنقرة تعرف جيّداً أنّ معركة «الباب»، ولاحقاً معركة الرقّة، تتطلب الإصغاء الى ما سيقوله النظام السوري القريب من تلك المناطق، وربّما هنا قد تدخل موسكو على الخط لإطلاق يد تركيا في التقدّم عسكرياً.
تركيا تحفَظ أيضاً حصّة الاوروبيين في السيناريو المطروح، وهي أن تدعم مشروع «المنطقة الآمنة» وتُقدّم الدعم المالي الموعود على أساس 3 مليارات يورو ومبلغ إضافي آخر لا يقلّ عن ذلك، مقابل التفاهم التركي ـ الاوروبي في موضوع اللجوء.
إتّفاقية اللجوء قد تتجمّد لكنّ «المنطقة الآمنة» قد تكون بديلاً جيّداً لها. المفاجأة التي قد تحملها تركيا للجميع هي نجاحها العسكري في الانتشار السريع بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر» شرقاً وجنوباً، وعندها قد تكبر مساحة «المنطقة الآمنة» وتتحوّل نقاشاً شاملاً يتضمّن الملف السوري بكامله وبناء سوريا الجديدة إذا ما توافرَ الدعم الاميركي ـ الروسي ـ الايراني للتصوّر التركي.
طبعاً هناك دائماً بعض التحفّظ والتخوّف التركي من احتمال أن يردّ الرئيس الاميركي على التقارب التركي ـ الروسي في سوريا ومفاجأة عملية «درع الفرات» التي تتقدّم على الارض غيرَ عابئة بما تقوله واشنطن وما يُقال حول مساومات تجري بعيداً عن الأعين بين أنقرة ودمشق، بتحريك القوات الكردية نحو الرقّة مباشرةً بدلاً من مدينة «الباب» التي هي في حكمِ الساقطة عسكرياً في يد الأتراك و»الجيش السوري الحر» والتي تُعتبر من المناطق المحظّرة على قوات «الحزب الديموقراطي الكردي» كونها تقع في غرب الفرات؟
سيطرة قوات «الجيش السوري الحر» على الرقّة بدعمٍ تركي ستعني تضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم ومحاصرته في شمال شرق سوريا أكثر فأكثر عبر الجنوب هذه المرّة، فهل تَستسلم الإدارة الاميركية لسيناريو تدمير حليفها المحلي الوحيد في سوريا الذي جهّزته لدورٍ كبير في سوريا بهذا الشكل؟
مهمّة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ في تركيا ستكون صعبةً، فالأتراك سيضعون أمامه خطةً يريدون أن يوافق عليها، وأبرزُ نقاطها فتحُ الطريق أمام «المنطقة الآمنة» وتوفير الحماية الجوّية لها والاستعداد للمشاركة في معركة «الباب» ثمّ الرقّة إذا قرّرت تركيا التحرّك سريعاً لإطلاقها، خصوصاً أنّ الناطق باسم الرئيس التركي ابراهيم قالن يذكره قبل قدومه بأنّ القوى العالمية لم تستبعد فكرةَ تركيا في شأن إقامة «منطقة آمنة» في سوريا، لكنّها لم تُبدِ إرادة واضحة لتنفيذِ هذه الخطة. وإنّ أنقرة تدفَع في اتّجاه خطة مبدئية لوقفِ إطلاق النار في حلب لمدة 48 ساعة ثمّ تمديدها خلال عطلة عيد الأضحى.
أصوات القيادات التركية التي يصل صداها إلى مسامع كثير من العواصم الغربية تقول إنّ أنقرة لن تقبل بعد اليوم، وفي الملفّ السوري تحديداً، أن تسيرَ في الطريق الذي يَرسمه البعض لها، بل أن تكونَ هي من يرسم طريقَها. أنقرة وبعد هذه الساعة لا تريد أن تكون في موقع الطفل الصغير الذي ينتزع مَن هو أكبر منه سنّاً وقوّةً قطعة الحلوى من يده بلا حول ولا قوّة.
رسالة القيادات التركية لواشنطن قد تكون هدية لهلاري كلينتون مرشّحة الديمقراطيين قبَيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليسجّلوا بعض الانتصارات في سوريا، تنعكسُ مباشرةً على صناديق الاقتراع الأميركية وتقلب المعادلات هناك في مسألة الحرب على «داعش»، خصوصاً أنّ وزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا حَمل لهم خيبة الأمل عندما قال: «إنّ القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) سيكون صعباً وقد يَستغرق عقوداً، ملقِياً اللوم في ذلك على قرارات الرئيس الأميركي.