في العراق تُهدَم المعالم الدينية، وقد تناولت وسائل التواصل الاجتماعي صورةً ملتقَطة أثناء تفجير دير مار بهنام وسارة في الموصل بالتزامن مع تهجير المسيحيين مِن قراهم وأديرتِهم من العراق، مثلما سبقَ الفضل في سوريا، إذ اعتُدِي عليهم وعلى أديرتِهم وقراهم، حيث خَطفوا أساقفتَهم وقَتلوا كهَنتهم واعتدوا على رموزهم ومعتقداتهم الدينية، كذلك أدّى ذبحُ الأقباط في ليبيا إلى عودة نحو 45 ألف قبطي إلى مصر.
وفي لبنان الذي لطالما مرَّ المسيحيون فيه بهذه التجربة، فإنّهم حتى هذه الساعة لا يزالوا ينعَمون بالاستقرار، وذلك يعود إلى طبيعة تكوين لبنان من حيث جماعاته، أو من حيث جغرافيته، كما أنّ لتجربته التاريخية سبباً في جعل الجماعات حاضرةً لصَدّ أيّ عدوان عليها كردّة فعل طبيعية لأيّ أقلّية خائفة.
وقد تجِد في سابقة تخريج أوّل مجموعة مسيحية مسلّحة قوامُها ألف مقاتل على يد الأكراد مهمّتُها الدفاع عن الوجود المسيحي في العراق خطوةً للحفاظ على وجودهم، وإذا انتقلت هذ التجربة إلى سوريا يكون ذلك أمراً مستحَبّاً، إذ بعدَ سقوط مفهوم الدولة في العراق وسوريا لا يمكن المسيحيّين أن يستعيدوا حضورَهم ويشهدوا نهضةً جديدة إلّا إذا تمسّكوا بحقوقهم وقضيتهم وقاوموا كلّ عدوان عليهم، حيث لا بدّ من تسليط الضوء عليها مثلما فعلَ الأكراد ومثلما كان يفعل ولم يزل المعنيون بالقضية الفلسطينية.
كلّ هذا ولا تزال دوَل كثيرة تتريّث مترقّبةً الجهة التي ستتقدّم في سوريا، وكيف ستتعامل إيران مستقبلاً مع الجماعات الموجودة في العراق من أهل السنّة والأكراد والمسيحيين… ولو كانت الأنظمة الحاكمة في هاتين الدولتين تطبّق الديموقراطية وتؤمّن الحماية للأقلّيات لكانت سَمحت للمسيحيين بأن يمارسوا ديموقراطيتهم من خلال وجود تعَدّدية حزبية وتنَوّع إعلامي حرّ وتكريس الضمانات التي تحمي وجودَهم وتضمن مستقبلهم، حيث سَهّلت العشائر والقبائل السنّية لــ«داعش» الدخول واحتلال تكريت،
وذلك كردّة فعل على الهيمنة الإيرانية الشيعية على العراق، بينما لجَأ الأكراد إلى المواجهة المسلّحة مع «داعش» وهم الذين يعيشون في ظلّ حكم ذاتيّ يمتلكون فيه أصلاً مقوّمات الدفاع عن النفس وإنْ توسّلوا بعض المساعدات من هنا وهناك، وها هم اليوم في طريق استعادة معظم القرى التي خسروها في المواجهة مع «داعش» أو «النصرة»، سواءٌ في سوريا أم في العراق.
وهنا لا يمكن لنا أن نحذفَ دور الأحزاب الكردية في تعزيز وتنظيم قدرة الأكراد على المواجهة، الأمر المفقود عند مسيحيي العراق وسوريا، ما جعلَ قدرتَهم على الصمود شِبه معدومة، لكنّ التأسيس الحاصل لمشروع الصمود يقتضي البناء عليه وتشجيعه في إطار استعادة ما فقدوه ولو بَعد حين.
أمّا في لبنان فإنّ مناعة المسيحيين فيه ينَغّصها خنوعُ وضعفُ بعضِ قواهم السياسية، ففيما أدركَ الجميع أنّه بعد الوصاية السوريّة على لبنان بات يعيش في ظلّ «الوصاية الإيرانية» وفقاً لما يؤكّده الواقع السياسي والعسكري والإقرار الإقليمي والدولي بذلك، يستمرّ بعضهم في تكرار دور التعامل مع المحتلّ، كلّ ذلك وهم الذين يدركون مرارة تجربتِهم وبُعدهم العربي ودورهم الحضاري ومصلحة إسرائيل في محاربة هذا الدور وإهمال بعض العرب لقيمتِهم. ومثلما كان البعض منهم إقطاعياً لدى الباب العالي في مقابل مقاومة البعض لهذا الباب، كذلكَ فعل بعضهم يومَ تعاملوا مع الوصاية السورية.
وعلى هذا الدرب سار بعضهم معتقدين أنّ أيّ اتّفاق بين إيران والغرب سيسهّل دربَهم لتحقيق أحلامهم القديمة والمستديمة، كلّ ذلك على حساب فراغ الكرسي الأوّل، أمّا غداً فسنراهم يَرفعون سعفَ النخيل وأغصانَ الزيتون لكبيرهم الآتي على ظهر أتان، ثمّ يبيعونه بثلاثين من الفضّة يوم يَسلك هذا الكبيرُ دربَ الجلجلة والشوك والجَلد والصَلب والموت، حيث لا تعود تنفَع المشنقة بمن قد يَشعر بالندم.