يتوقع كثيرون من المراقبين أن تزداد العلاقات الأميركية-الروسية سوءاً مع حلول العام الجديد 2015، ولكنّ السؤال الذي يبقى عالقاً، ولا اجابة واضحة عليه، هو إلى أيّ مدى ستستمرّ واشنطن في تأييدها لكييف، وما هو حجم تأثير العقوبات المفروضة على روسيا؟
سؤال لا يزال موضع سجال كبير وقابلاً للأخذ والرد. لا شك في أنّ الاكتفاء بالعقوبات لن يثني روسيا عن التراجع عن بعض أحلامها الامبراطورية فيما يخصّ سياساتها الخارجية، على رغم ذلك فالمؤشرات الاقتصادية تبدو خطيرة وخطيرة جداً، إذ يتوقع البنك المركزي الروسي انحداراً سريعاً وتباطؤاً شديداً في النموّ الاقتصادي خلال الأشهر المقبلة، ذلك نتيجة انخفاض أسعار النفط والغاز، وكنتيجة مؤلمة للعقوبات المختلفة.
ويعتقد المراقبون أنّ الاستمرار في السيطرة على القرم، ودعم روسيا للمناطق الثائرة والمتمرّدة في شرق اوكرانيا ستكون له أثمان اقتصاديةً وسياسيةً كبيرةً، سواء في سمعة روسيا الخارجية، أم في تدنّي سعر صرف الروبل تجاه العملات الاجنبية، والأخطر ستكون له تداعياته لجهة الخسائر البشرية جراء استفحال النزاعات والصراعات الإثنية والعرقية والمناطقية.
بوتين والسجال
وإذا كان المتفائلون جداً جداً يبشّرون ببدء نهاية العصر «البوتيني» في 2015، فإنّ هذا الأمر إن حصل سيكون مريعاً ولن يمرّ من دون تداعيات كارثية، ويعتقد هؤلاء أنّ المشكلة تكمن في أن بوتين ليس من النوع الذي يُقدم على تنازلات، وليس هو بالشخصية المرنة التي تتراجع عندما تقتضي الضرورة السياسية.
وهذا في حدِّ ذاته يُنتج مخاطر كبيرة في طبيعة العلاقات الدولية والالتزامات والاتفاقيات المعقودة: «فهناك أوساط تتهمه بأنّه ليس ممَّن يسعون الى الحلول الوسط، أو الى تحقيق مصالحات مع خصومه بما يفضي الى تخفيف التوترات، بل يبحث عن السجال والصراع، ويرفض النصائح ومخارج الحلول التي يقدّمها له الكثير من الزعماء في أوروبا والغرب للخروج من المأزق القائم وبينهم أصدقاء يعتزّ بصداقاتهم كالمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، وهذا ما يقفل الأبواب أمام أيّ حلّ ممكن للأزمات المعقدة في أوكرانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ويفضي حتماً الى تصاعد وتيرة التوترات الاجتماعية والحراك الشعبي، ومخاطره ستزداد في حال تعمّق وبرزت آثاره تحديداً في موسكو وسانت بيتريسبورغ».
يضيف هؤلاء أنّه بخلاف الصورة التفاؤلية عن قرب تجاوز الأزمة التي يهلّل لها الإعلام القريب من الكرَملين، فإنّ بوتين أمام مأزق كبير، والحلّ الواقعي للخروج منه هو الانسحاب التدريجي من أوكرانيا، ذلك أنه بات من الواضح أنه يعجزعن حلّ جملة المشكلات التي وضع نفسه فيها. وبالتالي هو وقع في المصيدة التي ظنّ أنه نصبها لغيره، ذلك أنّ كلّ خطوة قد يتقدّم نحوها سوف تضعه في قلب هذه المصيدة وبالتالي سيتلقى المزيد من العقوبات.
إنّ الاستمرار في تقديم المساعدات للمتمرّدين والأقاليم المتمرّدة في شرق أوكرانيا ودونباس سيدفع روسيا نحو الهوّة الاقتصادية الحقيقية التي لا مخرج منها، كذلك فإنّ تراجعه عن موقفه المتصلّب تجاه ما يجري هناك بعد تدخله باسم الشعارات الكبرى سيؤدي حتماً الى انخفاض شعبيته، وتراجع هذه الشعبية أمرٌ لا مفرّ منه في حال تعمق المأزق وانفلات الاقتصاد من عقاله.
معضلة القرم
ويتوقع المتابعون ألّا تنتهي الأزمة التي بدأت بعد الاعلان عن ضمّ القرم، قبل التخلّي عن فكرة الضمّ والعودة الى روحية الاتفاقية التي وقعت في نيسان عام 2010 في خاركوف بين الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف والرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا، والتي تقضي ببقاء الأسطول البحري الروسي في القرم لغاية عام 2042 مقابل دفع روسيا مبلغ 100 مليون دولار سنوياً وتنزيل سعر الغاز المصدر إلى أوكرانيا بنسبة 30 في المئة، وأيّ حوار أو حديث مع الغرب لن يحصل قبيل التخلي عن فكرة التعامل مع اوكرانيا باعتبارها شقيقاً اصغر ومنصّة غربية للاعتداء على المصالح الروسية.
فالتخفيف من العقوبات لن يحصل في حال لم تُتخذ مواقف مرنة بل كثيرة المرونة، كذلك مذكَرة السلام الموقَعة في العاصمة البلاروسية مينسك حول انشاء منطقة منزوعة السلاح بعرض ثلاثين كيلومتراً في شرق أوكرانيا، على رغم أنها كانت مجحفة بحق أوكرانيا لكنّ روسيا وحلفاءها المتمردين لم يطبقوا أيّ بند من بنودها سوى موضوع تبادل الأسرى، وبالتالي سيبقى الموقف الغربي على حاله حتى تظهر السياسة الخارجية الروسية مظهراً من مظاهر الاعتراف واحترام سيادة أوكرانيا على كامل أراضيها.
ماذا سيحمل العام المقبل؟
يبقى السؤال، ماذا سيحمل العام المقبل لروسيا؟ يؤكّد عدد من الصحافيين والكتاب الروس أنّ الأيام المقبلة ستكون صعبة وصعبة جداً، والأخطر من ذلك أنّ هناك وجهة نظر بدأت تتردّد اصداؤها في أكثر من موقع وفي مراكز القرار، ومفادها أنّ الرئيس بوتين أظهر عجزاً بل عدم قدرة ودراية في ادارة ملفات كثيرة، فنهاية 2014 ليس كبداياتها التي حملت للرجل تألقاً وسمعة، بل حظي بأوسع تأييد شعبي عارم قلّما حصل عليه زعيم روسي من قبل.
أمّا الخسائر ليست بالقليلة، وفي هذه الحال يبقى اعتماده الأكبر على جهاز اداري كبير واحتياطي من الموظفين في المنظومة البيروقراطية-الحكومية والادارية من محافظين ورؤساء أقاليم ومناطق وحكم ذاتي، بل في غالبية المجلس الفيدرالي، وهذا ما يقوّي من وضعيته الى حدٍّ ما داخلياً، فيما سياسته الخارجية ستتعرّض للكثير من الخلل والتراجع سواء في الموضوع الأوكراني أو السوري أو الملف الايراني والشرق أوسطي عموماً.
الفشل الاقتصادي
لا شكّ أنّ من ابرز النتائج التي ستظهر احتمال تشكل حركات احتجاجية واسعة على خلفية الوضع الاقتصادي، في المقابل فإنّ البلاد شعرت للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي أنها بدأت تستعيد عافيتها ومنعتها وقوّتها، وأنها باتت غير خاضعة في قرارتها للاملاءات الغربية ومن وراء الحدود وتدير آذانها الصماء للغرب كما كان عليه الحال في عهد يلتسين.
وبالتالي فإنّ الشعب الروسي مستعدٌ ليسير تحت أيّ راية يرفعها بوتين، وهذا ما تعكسه الى الآن بعض استطلاعات الرأي وإن كان هذا التأييد لا يعني التأييد لشخص فلاديمير بوتين كرئيس بل تأييد للسياسة التي اتبعها.
على رغم ذلك يجب الفصل بين النجاحات في السياسات العامة والفشل في السياسات الاقتصادية، حيث من المتوقع الهبوط في مستوى الدخل الوطني ومستوى النموّ.
ويُعتقد أنّ هذا الهبوط سيصل الى نسبة 10 بالمئة وقد تطاول سقف 20 في المئة وهذا حصل مع دول عدة كانت قد استفادت من الطفرة النفطية. فقد فقدت في بداية الثمانينيات كلّ ما جنته في السبعينيات وبالتالي سيتزامن هذا الأمر مع الكثير من الخضات السياسية وحالة اللااستقرار، ما سيؤدي حتماً الى التخلي عن الكثير من الالتزامات والعقود والاتفاقيات مع دول اتحاد الدول المستقلة خصوصاً بيلاروسيا القلقة، وكازاخستان التي تتطلّع الى النموّ السريع، الى دول عدة في كل القارات.
هذا لا يلغي احتمال أن تتبدل وسائل الصراع لدى الحكم الحالي في روسيا، ولكنّ الاهداف هي عينها ذلك أنّه من المهم لبوتين أن يبقى الصراع، وأن يقوّض ما سمي بثورة شباط في أوكرانيا التي أفضت الى الاطاحة بحليفه، فهكذا ثورات لا يجب أن تنجح وكذلك أيّ ثورة قد تحصل في أيّ مكان، وهذا ما يؤكده السلوك البوتيني في علاقاته مع ثورات الربيع العربي ورغبة الشعوب الشقيقة بالمزيد من الاستقلال.
لم يقل بوتين يوماً إنه الافضل ولم يصرّح الى أين يقود البلاد، لكنّه كان دائماً يردّد أنه افضل الموجودين بل كان يقول إنّ غيره قد يقود البلاد نحو الهاوية، فهو حسب زعمه أفضل من الذين قادوها في التسعينيات ومطلع السبعينيات والثلاثينيات، أيّ أفضل من يلتسين وبريجنيف وستالين، إذ إنه استطاع الحفاظ على روسيا كقوة حضارية وإخراجها من قوقعتها في ازمنة مختلفة محافظاً على عراقتها واستقلاليتها.
السؤال الرئيس المطروح اليوم: مَن سينتصر… الفيل ام الحوت؟ أيْ الاقتصاد أم الدبابة.
في الواقع فإنّ خسارة 111 مليار دولار في خلال أسبوعين ليس نتيجة للعقوبات، بقدر ما هو نتيجة غباء اقتصادي ناجم عن سياسات غير واقعية، كالانفاق المجنون على اولومبياد سوتشي الشتوي الذي تجاوز الأربعين ملياراً وأثار زوبعة من النقاش الحامي حول مبرراته.
في كلّ الاحوال أمامنا عامان مصيريان سيتقرّر فيهما مصير السلطة في أميركا وروسيا على حدٍّ سواء، أيْ الانتخابات الرئاسية في كلا البلدين، ولكن على ما يبدو اليوم فإنّ الأفق مقفلٌ تماماً أمام الحلول باعتبار أنّ حروب بوتين مع العالم مستمرّة، وأنّ الحراك الشعبي ما زال خافتاً وليس من الضروري أن يأخذ منحىً عنفياً، ففي التاريخ الروسي كانت الانقلابات تحدث على مستوى السلطة وفي داخلها وليس بالضرورة عبر الشارع.