ما يحصل في النمسا يفوق في أهميّته حجم البلد (10 ملايين نسمة، 84 ألف كلم2).
بعضه يتعلّق بالتاريخ وبعضه بالواقع الراهن.
فالنمسا كانت اتّحدت بطوعها مع ألمانيا النازيّة في «أنخيلوس» 1938. لكنْ بعد الحرب العالميّة الثانية، وبسبب مراعاة القوّتين العظميين إياها، سمتها الأمم المتّحدة «ضحيّة هتلر الأولى». هذا كان كذباً، لأنّ النمسا كانت شريكة هتلر الأولى. النوم على الكذب حال دون مراجعة التاريخ النمساويّ ونقده الصارم بالطريقة التي عرفتها ألمانيا. في 1946-47 مُرّرت قوانين نزع النازيّة كحدث إجرائيّ عاديّ. الناس حُوّلت أنظارهم إلى إعادة الإعمار.
صفحات كثيرة، فضلاً عن الاتّحاد مع ألمانيا، طوتها كذبة «ضحيّة هتلر الأولى»: نظام إنغلبرت دولفوس الأوتوقراطيّ والمتأثّر بالفاشيّة الإيطاليّة في 1933، سحق الانتفاضة الاشتراكيّة في 1934 والحرب الأهليّة، الانقلاب النازيّ ونظام كورت شوشنغ الذي مهّد للاتّحاد…
كبت الماضي زكّته دائماً عقليّة إمبراطوريّة مكسورة لم تبرأ من انهيار الدولة الهبسبورغيّة: معاهدتا سان جيرمين وفرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، كانتا قد حرّمتا الاتّحاد بين النمسا وألمانيا. الدولة النمسويّة التي نشأت بعد ذاك خسرت ثلاثة ملايين نمسويّ ناطق بالألمانيّة ضمّتهم دول تمّ توسيعها وأخرى نشأت حديثاً: يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وإيطاليا.
بعد الحرب العالميّة الثانية، وتحت وطأة تلك العوامل مجتمعة، عبّرت مستشاريّة الاشتراكيّ الديموقراطيّ برونو كرايسكي (1970-1983) عن ممالأة النازيّين السابقين واليمين المتطرّف. زاد الطين بلّةً في تعطيل الحراك السياسيّ أنّ ائتلافات عريضة اشتراكيّة ديموقراطيّة – مسيحيّة ديموقراطيّة سادت معظم حقبة ما بعد الحرب الثانية في النمسا.
الصاعقة الأولى جاءت مع «قضيّة كورت فالدهايم»، حين انكشف أنّ أمين عام الأمم المتّحدة بين 1972 و1981، ورئيس جمهوريّة النمسا بين 1986 و1992، كان ضابطاً نازيّاً.
الصاعقة الثانية جاءت مع صعود اليمين الفاشيّ بقيادة يورغ هايدر، وتبوّؤ حزبه، «حزب الحريّة»، الموقع الثاني في انتخابات 1999.
مؤخّراً، في أواخر 2016، هُزم بشقّ النفس مرشّح «حزب الحرّيّة» لرئاسة الجمهوريّة، وفاز البيئويّ ألكسندر فان دير بلّن. الانتخابات العامّة، قبل يومين، استفاد فيها الحزب المذكور من التقدّم الذي حقّقه «حزب البديل» الألمانيّ، في مناخ الأجواء الجديدة المعادية للهجرة وللمسلمين. المسيحيّون الديموقراطيّون بات يتزعّمهم جناحهم الأكثر يمينيّة والأشدّ عداء للهجرة، والمرجّح أن يأتلف الحزبان في حكومة جديدة، حكومةٍ تشكّل شوكة في خاصرة الألمان، لا سيّما مستشارتهم أنغيلا ميركل، وأخرى في خاصرة الاتّحاد الأوروبيّ عموماً، وثالثة في خاصرة النمسا نفسها، وصورتها خصوصاً!