لستُ مهووساً بكره إيران والإيرانيين، بل أعتقد بأن الشعب الإيراني من أرقى شعوب العالم وأعرقها حضارة، وهو شعب فخور ومتحضر ويستحق حياة كريمة ونظاماً سياسياً أفضل من نظام ولاية الفقيه الذي يرزح تحت نيره منذ أربعة عقود. ولستُ مؤيداً العقوبات الأميركية على إيران، فأنا، كعراقي عانى بلده من عقوبات قاسية دامت ١٢ سنة، أعلم فداحة الأضرار التي تلحقها العقوبات الاقتـــصادية بحياة الشعوب، وكيف أنها تهدم الأسس الثقافية والأخلاقية التي تقوم عليها المجتمعات. وليس في مصلحة العراق أن تفرض عقوبات على جيرانه لأن الأضرار تتعدى الحدود هذه الأيام.
نعم، هذه المقدمة ضرورية قبل الحديث عن موقف العراق من العقوبات الأميركية على إيران، الذي أعلنه رئيس الوزراء، حيدر العبادي، قائلاً أنها ظالمة وخاطئة، لكن العراق سيلتزم بها لأنه سيتضرر إن لم يفعل، وأن مسؤوليته هي رعاية مصالح العراق، خصوصاً أنه غير قادر على تغيير الموقف الأميركي.
موقف العبادي هو ما كان سيتخذه أي مسؤول حريص على مصلحة بلده، فمسؤوليته هي حماية مصالح العراق وليس التضحية بها من أجل جار «عزيز» لم يكترث يوماً لمصلحة العراق، وفي ظل كل الأنظمة التي حكمته. لا لوم على بلد يرعى مصالحه، فلا وجود لبلد «ملاك» يسعى إلى رعاية مصالح البلدان الأخرى، إلا في مخيلة بعض العراقيين الذين ربطوا مصائرهم، مختارين، بإيران، وقد آن الأوان لأن يكونوا عراقيين فحسب.
لن أعود إلى الوراء أكثر من أربعة عقود، هي عمر النظام الحالي، لأن الأحزاب العراقية لم تكن موالية لإيران أيام الشاه، لكنها اعتبرت نظام الولي الفقيه نظاماً إسلامياً يجب الدفاع عنه لأنه يمثل «بيضة الإسلام» التي يجب الحفاظ عليها بأي ثمن! لكن استعراضاً سريعاً لسلوك «الجمهورية الإسلامية» تجاه العراق خلال أربعة عقود يشير بوضوح إلى أنها تسعى إلى تحقيق مكاسب على حساب العراق.
في اتفاقية الجزائر الموقعة بين العراق وإيران عام 1975، تنازل صدام عن حق العراق في شط العرب ووافق على أن يكون خط ثالوغ وسط شط العرب الحدود الرسمية بين البلدين! وخط ثالوغ هذا متحرك باتجاه العراق بسبب حركة المياه، ما يعني أن حدود إيران بمرور الزمن تتمدد نحو العراق وأن شط العرب لم يعد نهراً عراقياً. هذه الاتفاقية التي اضطر العراق إلى توقيعها تحت تهديد الشاه وتدخله العسكري في الشؤون العراقية، هي اتفاقية مجحفة فلماذا تتمسك بها «إيران الإسلام» التي عارضت كل ما فعله الشاه؟
حاربت إيران العراق ثماني سنوات عجاف قتل فيها أكثر من نصف مليون شاب عراقي، وكلفت العراق وإيران مئات البلايين من الدولارات. فإن كان صدام لا يهتم إلا لإدامة نظام حكمه، وقد كان كذلك، فلماذا أصرت «الجمهورية الإسلامية المباركة» على مواصلة حرب أهلكت الحرث والنسل وأحرقت الأخضر واليابس، رافضة كل عروض السلام من العراق والوساطات الدولية والإسلامية؟ وإن كان العراق قد احتل أراضي إيرانية، وإن هناك مبرر لإخراجه منها، فما هو مبرر استمرار إيران في الحرب بعدما استعادت راضيها عام 1982؟
لقد بدأنا نسمع مسؤولين إيرانيين كباراً يطالبون العراق بـ «تعويضات» بسبب شنه الحرب على إيران، لكن الحرب استمرت ثماني سنوات بسبب إصرار إيران على مواصلتها، وإن كانت هناك تعويضات مستحقة فهي للعراق على إيران، وأي تعويض مهما عَظُم، فلن يعيد الشبان الذين أحرقتهم الحرب أو يزيل إعاقة نصف مليون عراقي.
في 1991، فرضت أميركا وبريطانيا ومعهما دول أخرى، عقوبات قاسية على العراق، جعلت العراقيين يصارعون من أجل البقاء أحياء. هل خرقت إيران الحظر الأميركي والدولي على جارها «المسلم» وساعدت العراقيين المحتاجين إلى الغذاء والدواء؟ لم تفعل، باستثناء تسهيل تهريب النفط العراقي لمصلحة أشخاص معينين في نظام صدام.
في أواخر 2009، احتلت القوات الإيرانية، على حين غُرة، حقل الفكة النفطي العراقي في محافظة ميسان (الشيعية)، ولولا وقوف الولايات المتحدة مع العراق، لاختفى الحقل كما اختفت ممتلكات عراقية أخرى مثل الطائرات التي «أودعها» صدام لدى إيران قبيل حرب 1991. ومنذ عام 2003، قامت إيران بحرف مسارات الكثير من الأنهر والروافد الداخلة إلى العراق وأعادت المياه إلى إيران مع علمها بحجم الأضرار التي يتكبدها العراق والعراقيون (الشيعة) في تلك المناطق بسبب هذه الإجراءات غير المشروعة.
وبسبب إقامة إيران السدود على نهري الكارون والكرخة اللذين كانا يصبان في شط العرب، ومنع وصول المياه إلى العراق، تصاعدت الملوحة في محافظتي البصرة والعمارة وقضت على النباتات والأحياء وألحقت أضراراً فادحة باقتصاد المنطقة المعتمد على الزراعة والأسماك وتربية الحيوانات. وكنتيجة، تحاول الحكومة العراقية الآن إقامة محطات لتحلية المياه المالحة من أجل توفير مياه الشرب لسكان المنطقة التي يلتقي عندها نهرا دجلة والفرات العظيمان.
ومنذ سقوط نظام صدام وحتى الآن، مولت إيران عشرات الميليشيات في العراق وسلحتها ودربتها. ما الذي تجنيه إيران من هذه الميليشيات غير إضعاف العراق وجعله يخرج من أزمة ليدخل في أخرى؟ أليس الأجدر بها، إن كانت حقاً دولة صديقة، دعم مؤسسات الدولة العراقية بدلاً من الميليشيات؟ ومنذ 2003، امتلأ العراق بصور القادة الإيرانيين وسميت شوارع المدن بأسمائهم وأصبح الجنرال قاسم سليماني يتجول في العراق بحرية واحترام لا يجدهما حتى في بلده، بل يحضر اجتماعات الكتل السياسية العراقية المهمة ويشارك في النقاشات، علماً أنه لا يتحدث عادة في الشؤون السياسية الإيرانية، فمهمته عسكرية واستخباراتية بحت.
إن كانت هذه مواقف إيران، وهذا غيض من فيض، فلماذا يريد عراقيون من الحكومة أن تضحي بمصالح العراق وعلاقاته الدولية من أجلها؟ أليس الأجدر بالحكومة الإيرانية أن تتخذ الإجراءات المطلوبة لدرء العقوبات أو مواجهتها؟ متى يفكر هؤلاء العراقيون في أن بلدهم أولى بالولاء من بلد آخر لم يأتِ منه سوى الخراب والأذى؟
العالم الحديث يتعامل مع الناس حسب هوياتهم الوطنية، وكل من يتخذ هوية موازية، دينية كانت أم طائفية أم قومية، لن يجد له مكاناً فيه، بل سيبقى محتقراً حتى يحترم هوية الدولة التي ينتمي إليها. الهوية الوطنية لا تتناقض مع أي هوية فرعية، ولا تعني أن حاملها لا يتعاطف مع الأقوام الأخرى، لكنها تحتم عليه أن يسعى إلى تقوية الدولة التي ينتمي إليها مقابل الدول الأخرى.