لا أحد مغشوش. الحوار لن يصنع «المعجزات». هو لن يأتي برئيس للجمهورية. ولو كان ذلك وارداً لَوَضَعه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في رأس أولويات زيارته للبنان بدلاً من ملفّ اللاجئين. ولا أحد يتفاءَل حتى بتحريك الحكومة والمجلس. إذاً، لماذا دعا الرئيس نبيه برّي إلى الحوار؟
يقول سياسيّ عائد من جولة استطلاع عربية ودولية إنّه لمسَ هناك، بعد توقيع الاتفاق مع إيران حول النووي، جدّية في الضغط الدولي لإنجاز تسوية تُنهي الفراغ الرئاسي في لبنان.
وهذا الضغط مُستجدّ، إذ حتى الأشهر الأخيرة، كانت مكاتب الأبحاث التي تزوِّد الإدارة الأميركية بالتقارير، تشير إلى أن لا مشكلة كبيرة في تأجيل الحسم في الملف الرئاسي ما دامَ لا يتسبّب باهتزاز حقيقي للاستقرار. ففي لبنان، يتعرَّض الاستقرار للخطر إذا اندلعَت مواجهة مذهبية، سنّية – شيعية. ولذلك، فالمطلوب أن يبقى التوازن المذهبي قائماً على رأس كلّ مِن الحكومة والمجلس النيابي.
وأمّا رئاسة الحمهورية المسيحية، فالفراغ فيها لا يثير أزمة خطِرة، لأنّ المسيحيين ليسوا في وضعية تتيح لهم التسَبُّب بأزمة. كما أنّ الدستور اللبناني يَنقل سلطات الرئاسة موَقّتاً إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، حيث كلّ الطوائف والأحزاب ممثّلة. ولذلك، لا بأس بتأجيل انتخاب رئيس جديد، إذا كان متعذّراً تفاهم إيران والسعودية على المخارج في لبنان.
وعلى مدى عام ونصف العام، بذلَ الفرنسيون والفاتيكان جهوداً لإقناع واشنطن بالضغط على القوى الإقليمية لتسهيل انتخاب رئيس. لكنّ الأميركيين لم يكونوا مستعدّين لتقديم الأثمان مبكراً، وفي سبيل موقع لا فاعليةَ أساسية له في الاستقرار العام.
وبعد تغيير العهد السعودي وتوقيع الاتّفاق مع إيران، تبدَّلت المعطيات، وبرَز خلطُ للأوراق الإقليمية. ثمّ جاء انضمام تركيا إلى التحالف ضد الإرهاب. وبذل الفاتيكان ضغوطاً في اتّجاه الرئاسة، ستبلغ الذروة مع زيارة البابا فرنسيس لواشنطن بعد أسبوعين.
ويَعتقد السياسي العائد من جولته أنّ الحراك الشعبي ليس عفوياً، بل هو مرتبط بالضغط الدولي، وهو منظَّم ويَحظى بالتغطية، وهدفُه الضغط في سبيل إنتاج تسوية يكون انتخاب رئيس للجمهورية أوّلَ بنودها. ويضيف أنّه سمعَ في بعض المحافل تفاصيلَ عن التسوية والأمكنة المحتمل أن ينتقل إليها المتحاورون لعقدِها، على غرار الدوحة في 2008.
لذلك، وجَد برّي أنّ الفرصة مؤاتية لسحبِ التسوية من الأروقة الخارجية إلى بيروت. ومن شأن الحوار أوّلاً أن يحدّ من محاذير الضغط الشعبي في الشارع، وثانياً أن يلبنِنَ التسوية. وقد نسَّقَ مبادرته مع النائب وليد جنبلاط، وبموافقة الرئيس سعد الحريري.
ولكن، في العمق، ما زالت المصاعب الإقليمية قائمة في وجه التسوية. ويؤدّي المخاضُ العنيف في سوريا والعراق واليمن إلى زيادة التعقيدات لبنانياً. فالقوى الجالسة إلى طاولة الحوار لن تحسمَ خياراتها ما لم تتلقَّ الضوءَ الأخضر من حلفائها الإقليميين.
ولذلك، فالرئيس برّي أدرجَ بندَ انتخاب رئيس للجمهورية في المقدّمة، لكنّه ليس مغشوشاً. فمعطياته تجزم بأنّ احتمال تحقيق هذا الهدف لا تتجاوز نسبتُه مستوى الصفر. والأجدى عَملياً هو الذهاب مباشرةً إلى تأمين البديل الموَقَّت حتى انفراج الأزمة، أي تحريك الحكومة والمجلس النيابي.
لكنّ المطّلعين يقولون: حتى تحريك الحكومة والمجلس يبدو هدفاً صعبَ التحقُّق، لأنّ المسألة هنا ترتدي طابعاً مذهبياً. فالحكومة عنوان سنّي في الصراع، والمجلس عنوان شيعي.
وفي رأي هؤلاء، أنّ إجراء مقايضة سنّية- شيعية لتحريك المؤسستين ليس متوافراً في الوقت الحاضر، لأنّ كلّاً مِن الطرفين المذهبيين في لبنان ينتظر «كلمة سرّ» أو أمر عمليات إقليمي، وتحديداً إيراني أو سعودي، بالذهاب إلى التسوية أو الاستمرار في التعطيل.
وحتى اليوم، لا تبدو السعودية، ولا إيران خصوصاً، مستعدّتَين للإفراج عن التسويات في لبنان. فالاشتباك الإقليمي في الذروة، وهو في سوريا بدأ يتّخذ أبعاداً استراتيجية جديدة مع بدء تبَلوُر مناطق النفوذ: دعم روسي للأسد واهتزاز في السويداء.
وارتباطاً، هناك تطوّرات حاسمة متوقَّعة في اليمن والعراق. و«حزب الله» وآخرون ينتظرون اكتمالَ المشهد الإقليمي، والسوري خصوصاً. وحتى ذلك الوقت، سيبقى لبنان رهينَ الانتظار، ولا تسوية.
إذاً، فالمتحاورون الأساسيون على الطاولة لن يقولوا كلمةً حاسمة، بل سينتظرون الخارج. وحوارُهم عملياً هو نسخة موسَّعة من الحوار الثنائي بين «المستقبل» و«حزب الله». فالمطلوب منه ليس الحلول، بل دفعُ القوى المذهبية إلى الجلوس والتحادث حول طاولة واحدة، بدلاً من الشارع.
بعد خروج القوّات السورية من لبنان، ذهبَ اللبنانيون إلى حوار 2006 متفائلين بتسوية. وبعد انفجار الحرب السورية، ذهبوا إلى حوار 2012 أقلّ تفاؤلاً. واليوم، مع بدء ارتسام مناطق النفوذ في سوريا، يذهبون إلى الحوار بتشاؤم. إنّها سوريا دائماً. ولا تسويات اليوم، ما دامت سوريا تهتزُّ.
إذاً، لماذا الحوار؟
إنّه حوار الوقت اللبناني الضائع انتظاراً لتبَلوُر المشهد الإقليمي. وأمّا الطموحات إلى تسوية كالدوحة أو الطائف فهي ليست واقعية، وقد لا تصبح كذلك إلّا بنضوج الظروف للمؤتمر التأسيسي.