لهذه الأسباب تعطّلت لقاءات «14 آذار»
لماذا أحرق جعجع اقتراح الـ15 دائرة؟
يقدّم سمير جعجع الدليل تلو الآخر على الإرباك السياسي الذي يطبع حركته منذ مدّة. لا يرتبط الأمر فقط بخروجه من معراب ليطرق باب الرابية ويجلس في صالون جنرالها مقدّماً أوراق اعتماد هدنة مع خصمه التاريخي.. وإنما أكثر من ذلك.
طبعاً، تأخذ الأحداث الإقليمية المتسارعة والمهدّدة بقلب موازين القوى رأساً على عقب، حيّزاً مهماً من سلة الحوافز التي تدفع «حكيم» القلعة الكسروانية الى وضع استراتيجية وقائية تحميه من غدرات التطورات في ما لو جرت لغير مصلحته ومصلحة حلفائه.
ولكن ثمة اعتبارات أخرى تدفع به إلى تسجيل نقلات استثنائية لم تعهدها مسيرته السياسية منذ خروجه من السجن، والى القفز في حقل من الألغام: يحرص من جهة على التمسّك بحلفه مع «تيار المستقبل» وهو يدرك جيداً أن ما أفسده اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» لم تُصلحه محاولات الترقيع الأخرى، لا سيما المشروع المختلط (النسبي مع الأكثري) الذي أيّده بالتوافق مع «الزرق» والاشتراكيين.. ومن جهة أخرى يريد لمشروع «التودّد» مع «التيار الوطني الحر» أن يكون ناجحاً، ولكن الخشية من تكبيده أثماناً كبيرة، تزيد من تكبيله.
إذاً، هو بين نارين:
نار التفاهم مع الحريريين، وهو شرّ لا بدّ منه حتى لو فتحت كل أبواب الخليج أمامه وفُرش له السجاد الملكي، فلا غنى عن وقوف سعد الحريري إلى جانبه، طالما أن البديل ليس قائماً.
ونار التحديات المستقبلية التي يُفترض أن يحسب لها كل الحسابات كي لا يدفع مرة جديدة ثمنها. ومن بين تلك الحسابات تعبيد طريقه أمام الجمهور المسيحي كي لا تكون مرحلة ما بعد ميشال عون شبيهة بما قبلها، بمعنى تمكنه من تجاوز حواجز ماضيه ليكون من بين منظومة الوراثة القادرة على تقاسم الطبق البرتقالي. وهذا ما يفرض عليه تقديم تنازلات جدّية تتجاوز ورقة «إعلان النيات» التي، على أهميتها، لا تزال عناوين فضفاضة لم تلزمه بشيء.
عملياً، لا شيء قد يدفع المسيحيين الى المصادقة على سجل عدلي نظيف باسم سمير جعجع إذا لم يقنعهم بأنه جاد في سعيه الى وضع قانون انتخابات يعيد لهم ما أخذه منهم «قانون الستين».
مهما قدّم الرجل من براءات ذمة لفظية ومنبرية في زياراته الى الرابية، فلا شيء سيشفع له عند الجمهور المسيحي الّا بَصْمَتُهُ الواضحةُ غير الملتبسة على اقتراح يصوّب التمثيل المسيحي ويعيد له الاعتبار، حتى لو بالحد الأدنى.. ولهذا هو يترك هذا الخيط معلقاً في المفاوضات الجارية بينه وبين «التيار الوطني الحر».
لكن التذاكي في هذا المجال صار مكشوفاً لأن القوى اللبنانية تكاد تحطم الرقم القياسي في بحثها عن قانون الانتخابات. إذاً المشكلة ليست في القانون، وإنما في القرار.
ويتبيّن يوماً بعد يوم أن جعجع لا يريد أن يتقدم خطوة الى الأمام ويحدّد موقفه النهائي من اقتراح مشترك يجمعه مع العونيين، خشية إحراج حلفائه، وتحديداً «الزرق»، مع أنه يعرف جيداً أن «تيار المستقبل» سيتمسك بـ «قانون الستين» مهما كان حجم الإغراءات الموضوعة على طاولته، فهو لن يفرط بالقانون الذي يمنحه أكثرية نيابية تبقى تحت جناحيه مهما حار ودار حليفه القواتي وابتكرت مخيلة اقتراحاته.
ولكن ما لا يفهمه راصدو مواقف جعجع، هو مسارعته الى إحراق اقتراح الـ15 دائرة الذي جرى التفاهم عليه في بكركي الى جانب اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي»، بعدما تقصّد الجنرال ميشال عون رفعه الى مرتبة الاقتراح المشترك بين القوى المسيحية، مسقطاً بذلك مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» الذي كانت له الأولوية.
وما يزيد من علامات الاستفهام هو الثمن الذي قد يكون قد حصّله رئيس «القوات» جراء هذه «المحرقة»، لا سيما أنّ راصدي مواقفه متأكدون من أنّ الرجل فعلها من دون أي مقابل، وكان بإمكانه استخدام هذه الورقة للضغط على حلفائه لتحصيل مشروع أفضل من الاقتراح المختلط، لكنه أهمل هذا الاحتمال. مع العلم أنّ جعجع يعي جيداً أنّ «المستقبل» سيسعى جاهداً لإيجاد المخرج اللائق للتبرؤ من الاقتراح المختلط الذي تقدّم به «الثلاثي» الى مجلس النواب، فيما يتردد أنّ «الحزب التقدمي الاشتراكي» يحاول غسل يديه من الاقتراح، ما يعني سقوط ثوب الأكثرية التي تسمح له بعبور الهيئة العامة لمجلس النواب، وبالتالي ضرورة البحث عن مشروع جديد.
ورغم تأكيده عند كل محطة أن حلفه مع سعد الحريري «شبه مقدس» لم يمسه أي مكروه، إلا أنّ متابعي هذا الشأن يجزمون أن العلاقة تمرّ بأسوأ أيامها لأسباب كثيرة جعلت التنسيق بين الفريقين في حدوده الدنيا.
فالرئيس فؤاد السنيورة، على سبيل المثال، لم يقصد معراب منذ أكثر من سنة، فيما غطاس خوري يغيب عن السمع بعدما قرر سعد الحريري الجلوس على طاولة الحوار، مع أنّه كان يميل إلى مقاطعة مبادرة نبيه بري، الا أنه عاد وغيّر استراتيجيته تاركاً حليفه القواتي يغرّد منفرداً. أما بقية زوار القلعة الكسروانية فيتقصدون إبلاغ سيدها أن مبادرتهم فردية وشخصية.
حتى لقاءات أقطاب «14 آذار» التي كانت تحصل بين الحين والآخر ويستضيفها بيت الوسط، لم يعد لها من أثر، ولم يجد السنيورة أي سبب كي يدعو «رفاقه» الى لقاء للتشاور في ما بينهم. لا بل أكثر من ذلك، إنّ الفريق «الأزرق» لا يجد حراجة في إبلاغ كل سائل أنّ جعجع ليس مرشحاً جدياً لـ «المستقبل»، وما حصل كان من باب المناورة لا أكثر.
بالنتيجة، يفضّل جعجع ترقّب التطورات قبل أن يقول كلمته النهائية. وبالانتظار، يحرص على تجميل الصورة الجامعة لقوى «14 آذار»، من دون أن يُفلت يدي «التيار الوطني الحر»، الى أن تقضي الأحداث الخارجية أمراً كان مفعولاً…