صحيح أن انفجار أزمة النفايات بفعل فشل السلطة السياسية في معالجتها، أدى الى تفجر ثورة في الشارع أطلقتها هيئات بيئية ومن المجتمع المدني، لكنها لم تكن في الواقع سوى نتيجة حتمية لتراكمات من الازمات المعيشية والحياتية الناجمة عن تراجع مخيف وغير مسؤول في التعامل الرسمي مع حقوق المواطنين الطبيعية من الدولة، والاهمال المتعمد في تأمين أبسط واجبات الحياة اللائقة والكريمة لهؤلاء الذين يشكلون في نهاية المطاف، المصدر الرئيسي للضرائب والرسوم التي يفترض أن تغذي خزينة الدولة.
سبقت هذا الحراك صرخة أطلقتها الهيئات الاقتصادية في أكثر من محطة للتحذير من مخاطر الصراع السياسي على الاقتصاد وعلى القطاعات الانتاجية.
فالقطاع الخاص لم يسلم من ارتدادات الازمة السورية على الداخل أو على الحدود والمعابر أو على فرص العمل أو على البنى التحتية.
ولكن لا نداءات الجسم الاقتصادي لقيت صداها ولا صرخات الحراك المدني بلغت مبتغاها، بل على العكس عجز الحراكان اللذان يمثلان طرفي الانتاج الاساسيين في البلاد ايصال مطالبهما، وفشلا في احداث صدمة لدى الجسم السياسي الحاكم بمختلف فئاته. فاستفحلت الازمة السياسية وتفاقمت معها الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية منذرة بانفجار اقتصادي – اجتماعي لا يعي أهل السلطة الائتلافية حجمه وأخطاره بعد، ليس لسبب الا لاقتناع لدى هؤلاء أن الحراكين قابلان للاحتواء والتسيير وفق الاجندة السياسية لكل فريق في السلطة.
هل الانطباع القائم لدى هؤلاء في محله؟ وهل هو نابع من تجربة سياسية ناجحة في ترويض كل حراك يمكن أن يؤثر في الهيكلية السياسية القائمة في البلاد والمحكومة بمنظومة مصالح مالية تخرج من قوقعة الاصطفافات السياسية القائمة؟
يجيب مطلعون على الحراك في الوسطين المدني والاقتصادي بالقول ان الحراك المدني الذي بدأ صادقاً وحقيقياً في تعبيره عن وجع الناس واشمئزازهم من الاداء السياسي حيال تحمل مسؤولية ادارة شؤون البلاد والعباد، ما لبث أن وقع ضحية من هم في السلطة بعد استشعارهم الخطر الذي يحمله اليهم.
واذا كان أصحاب الوجع الحقيقيون من وسط الناس قد آثروا التراجع والانسحاب نتيجة الفشل الذي حصده الحراك ودخوله متاهة السياسة والتمويل المجهول الهوية، فان أكثر ما يخشاه المراقبون ان يكون الهدف من وراء حرف الحراك عن مساره هو أخذ البلاد نحو فوضى الشارع مع ما يستدرجه ذلك من انزلاقات تخرج الارض عن السيطرة وتدفع الى مواجهات يمكن ان تكون دامية. وما يعزز هذه المخاوف هو العنف والحقن الذي شهدته التحركات
الاخيرة.
لا يختلف الامر على الضفة الاقتصادية. فالحراك الاقتصادي الذي لا ينفك يطلق الصرخة تلو الاخرى، لا يزال عاجزاً عن اظهار الصورة الحقيقية لحجم الخسائر والاضرار اللاحقة بمختلف القطاعات السياحية منها والتجارية والصناعية والزراعية.
فعلى رغم الارقام المقلقة التي تعكس ما وصل اليه الاداء الاقتصادي في لبنان، فانها لم تفعل فعلها بعد في الوسط السياسي، ذلك أن للسياسيين حسابات مختلفة. اولها ان فريقاً منهم هو فريق الثامن من آذار يقيم على اعتبار ان الصرخة الاقتصادية تحركها أجندات سياسية بما أن غالبية مطلقي الصرخة من رؤساء الهيئات محسوبون على “تيار المستقبل”. أما الحساب الثاني فيقوم على أن الاولوية اليوم ليست لملف اقتصادي مهما علا شأنه، ما دام الوضع النقدي ثابتاً والقطاع المالي صامداً ومليئاً.
لكن ما يقلق الوسط الاقتصادي أن السلطة السياسية تنام على طمأنات المصرف المركزي حيال ثبات العملة، لكنها لا تأخذ في الاعتبار في المقابل تحذيرات الحاكم المتتالية من ضرورة تحييد الاقتصاد عن المناخ السياسي المتشنج ومفاعيله السلبية.
آخر هذه التحذيرات وردت في شأنين: أولهما مخاطر خفض التصنيف الائتماني للديون السيادية، وهو لم يلق أي صدى عند أي مسؤول. وثانيهما أن توقعات النمو لهذه السنة لن تتجاوز الصفر (والكلام للحاكم رياض سلامة في ملتقى العراق المصرفي الذي انعقد قبل ايام في بيروت)، بعدما كانت تبلغ بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي 2,5 في المئة. وهذه التوقعات لم تعن لمسؤول شيئاً.
والسؤال، ماذا يجب أن يحصل ليستفيق أحدهم على الواقع المأزوم بعدما فقدت البلاد معظم مقومات صمودها الاقتصادي والاجتماعي؟