غياب رئيس تكتل التغيير والاصلاح ميشال عون عن جلسة «الحوار» الثانية ترك انزعاجا مكتوما عند الكثير من القادة المتحلقين حول «الطاولة»، لم ينتظر هؤلاء سماع مبررات عدم الحضور، وجوه كثيرة كانت «شاحبة» ليس فقط بسبب هذا الغياب، وانما لوجود الوزير جبران باسيل على «كرسي» «الجنرال». في مكان آخر ثمة جهود كبيرة بذلت على «خط» عين التينة لتدارك اي تداعيات محتملة لموقف «الجنرال» وكي لا يفهم موقفه بانه «رسالة» سلبية تجاه الرئيس نبيه بري خصوصا ان العلاقة مع «الرابية» لا تزال في غرفة «العناية الفائقة». ويبقى السؤال لماذا «يتدلل» الجنرال على «طاولة الحوار»؟
اوساط سياسية مطلعة على خلفيات قرار عون تشير الى ان عدم حضوره غير موجه ضد احد، لكنه يحمل في طياته اكثر من معنى سياسي جزء منه عام والجزء آخر خاص، في المسألة الثانية يريد عون تعزيز حضور باسيل بحلته الجديدة كرئيس للتيار الوطني الحر، ثمة عمل دؤوب لـ«نيو لوك» لتغيير بعض السلكويات «غير المحببة» للوزير «المتشاوف»، وباعتراف خصومه داخل «التيار»، حقق تقدماً ملموساً خلال الاسابيع الاخيرة. وفي المقلب الاخر يريد «الجنرال» تعزيز موقع الوزير سياسيا، وجلوسه بين «الكبار» يمنحه دورا بارزا بصفته الحزبية وليس بصفته «صهر» الجنرال.
في السياسة يريد عون ايصال رسالة مفادها ان الحل والربط في مكان اخر وليس في «ساحة النجمة»، هو يدرك ان الحوار سيدور على «لاشيء» طالما ان الفريق الاخر غير مستعد للتسليم بحقه في الرئاسة، «التعليمة» الخارجية لم تصل بعد، ظروف التسوية الاقليمية لم تنضج، جلسات الحوار ستكون طويلة، لذلك ما من داع لدوام الحضور، قد يحضر الجلسات المقبلة،المهم ان «ملائكته» حاضرة، «التيار البرتقالي» كطرف سياسي وازن موجود على «الطاولة» اما وجوده شخصيا فليس بالامر الملح طالما ان النقاشات لا تحتاج الى مواقف حاسمة في الوقت الراهن.
اما اسباب شعور «الجنرال» بالاسترخاء السياسي، فيعود اولا واخيرا الى انه ينام على «حرير» موقف حليفه حزب الله الداعم له الى ابعد حدود في الملف الرئاسي، فلا «امتعاض» بكركي مهم بالنسبة اليه، ولا اصرار تيار المستقبل على نعي حظوظه مهم، ولا قطع السعودية للحوار مهم ايضا، ولا الاسئلة المكررة لسفراء الدول الغربية حول موقفه من سلاح حزب الله اذا ما وصل الى قصر بعبدا مهم، كل ما سبق مجرد مواقف مرحلية قابلة للتبدل عندما تحين «ساعة» التسوية الكبرى في المنطقة، «الجنرال» يراها قريبة اكثر مما يتصورها البعض، وبحسب معطياته المطلوب فقط الصمود حتى مطلع العام المقبل، الاشهر المتبقية ستكون حبلى بالتطورات السورية الايجابية، والانتصار في دمشق سيسمع صداه بقوة على الساحة اللبنانية. لكن من اين ياتي عون بانطباعاته التفاؤلية؟
«الجنرال» تبلغ من اوساط ديبلوماسية في بيروت، ان سوريا ليست مجرد ساحة يستعرض فيها الرئيس فلاديمير بوتين «عضلاته» في «اللعبة الدولية»، بل هي جزء لا يتجزأ من الامن القومي الروسي في حوض البحر المتوسط. «استراتيجيا» يدرك عون ان بوتين لديه الجرأة والتصميم للتمسك بآخر قاعدة لنفوذ روسيا في المنطقة، في وقت ينسحب الرئيس باراك اوباما «المتردد» منها. فموسكوالتي تحولت الى محج لقادة دول وجماعات مؤثرة في الاقليم والعالم، تتحرك وفق استراتيجيتين متوازيتين الاولى سياسية نجحت من خلالها في «مسك» الملف السوري، كسرت احتكار «الائتلاف الوطني السوري» لتمثيل المعارضة السورية، وعملت بالتوازي على إصدار بيان من مجلس الأمن تبنى «بيان جنيف» واقترحت تشكيل تحالف إقليمي – دولي يضم الجيش السوري لمحاربة «الإرهاب» في المقابل رفعت نوعية وكمية الدعم العسكري للدولة السورية، في المقابل تكتفي واشنطن بخطابات التنديد. فما الذي حصل؟
بحسب تلك الاوساط اندفعت موسكو عسكريا في سوريا بعد ان نجحت في تثبيت اتفاق «مبدئي» مع واشنطن على تجاوز شرط تنحي الرئيس الاسد في الفترة الانتقالية المزمع الاتفاق عليها مع المعارضة السورية، والدول المتورطة بالحرب السورية، هذا التفاهم قبلت به السعودية بعد ضغط اميركي، وعلى عكس ما يعلن، اضطر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير للموافقة على «مضض» دون ان يتمكن من فرض مهلة زمنية محددة للفترة الانتقالية، وهذا يعني ان هذه المرحلة قد تمتد الى نهاية ولاية الرئيس السوري، دون اي اشارة الى عدم امكانية ترشحه لولاية جديدة. هذا النصر الدبلوماسي الروسي الذي تحقق خلال اللقاء الثلاثي في الدوحة بين وزير الخارجية الروسي سرغي لافروف ونظيره الاميركي جون كيري بحضور الجبير، استغلته موسكو وتعمل على تحصينه ميدانيا من خلال خطوات عملانية لفرض وقائع تمنع الاطراف المعنية بالتراجع عنه، وكل ذلك تحت «مظلة» اولوية مكافحة الارهاب المتفق عليها مع واشنطن.
هذا العامل هو الاكثر اهمية بالنسبة الى موسكو لانه مرتبط بتحول الموقف الغربي وتقدم اولوية مكافحة الارهاب على ما عداها من قضايا، وفي الاتصال الاخير بين لافروف وكيري كان وزير خارجية روسيا شفافا وواضحا للغاية عندما قدم لنظيره الاميركي جردة بالارقام المتوافرة عند الاستخبارات الروسية حول المواطنين الروس ودول الاتحاد السوفياتي السابق المشاركين بفعالية ضمن صفوف التنظيمات الارهابية في سوريا، وبينهم نحو 2500 جاؤوا من دول الجوار المحاذية لروسيا، بينهم 2000 من الشيشيان، اضافة الى حوالى 150 من روسيا. ويشكل هؤلاء نحو 20 في المئة من الاجانب الذين يقاتلون مع التنظيمات الارهابية في سوريا.
ووفقا للمعلومات فان موسكو بالاتفاق مع ايران انتهجت الاستراتيجية الجديدة كي تتصدر المشهد في سوريا لنزع ورقة «المذهبية» من السعودية، واعادة تصويب بوصلة الصراع نحو طبيعته السياسية المرتبطة بلعبة المصالح الاستراتيجية في المنطقة، ومكافحة الارهاب، فايران وروسيا يؤسسان معا لنظام اقليمي جديد ستكون سوريا حجر «الرحى» فيه، طهران مرشحة لدور مهم في النظام الاقليمي الوليد في ظل الكلام عن قرب تشكيل ما يعرف «بمجموعة اتصال» دولية – اقليمية بعد اقرار الاتفاق النووي رسميا في الولايات المتحدة، وحدها السعودية ما تزال تعاند الشراكة مع ايران ضمن هذه المجموعة وسط «ليونة تركية» لم تتحول بعد الى موافقة. تعمل موسكو على ربط تلك «الخيوط» في محاولة لقيادة التحالف ضد الارهاب بعد ان فشلت واشنطن في قيادته، المؤشرات الاولى تتمثل بالاندفاع العسكري في سوريا، «الرسالة» واضحة وهي تفيد بان روسيا مستعدة للقتال على الارض للقضاء على الارهاب، موسكو ابلغت من يعنيهم الامر ان مقاتلاتها وقوات النخبة الروسية مستعدة لقتال «داعش» وغيرها من التنظيمات الارهابية في سوريا، البعض يرجح ان تكون البروفة الاولى عملية عسكرية لاستعادة تدمر، وبعض المناطق في محيط دمشق، وكذلك مناطق واسعة في ريف ادلب وبشكل خاص في سهل الغاب.
اذا في دمشق حديث جدي وتحضيرات لـ«حكومة وحدة وطنية» في الأشهر المقبلة، ثمة طمانينة بان الاندفاعة الروسية وتعزيز الشراكة الميدانية مع ايران ستحسم الكثير من الجبهات ما سيؤدي الى تعبيد الطريق نحو تسوية سياسية فيها انتصار للدولة السورية، واعتراف بشرعية الرئيس بشار الاسد، وتسليم بدور الجيش السوري في مكافحة الارهاب، فلماذا لا يكون «الجنرال» مرتاحا؟ ويشعر بالاطمئنان ويزيد من «دلاله» على طاولة حوار مهمتها الاساسية تقطيع الوقت بانتظار حل يرى فيه انتصارا لمحور حجز فيه مكانا في المقدمة.